البقرة التي تطير!

TT

لم أفهم المعنى الذي أراده الصحافي الأميركي توماس فريدمان، عندما كتب مؤخرا عن انتخابات برلمان الثورة في مصر، فجاء عنوان مقالته في صحيفة «نيويورك تايمز» على النحو الآتي: «حين تطير الأفيال!».. فالمقالة من أولها إلى آخرها، تدور حول مشاهد تابعها فريدمان في الانتخابات، وخصوصا في حي «شبرا» الشعبي، وكيف أن الناس هناك صوتوا لمرشحي التيار الإسلامي، لأنهم، كناخبين، يعتقدون أن هؤلاء المرشحين سوف يحلون لهم مشاكلهم، من أول توفير فرص العمل المطلوبة، ومرورا بإتاحة خدمة تعليمية لائقة، وانتهاء بتحسين أحوال العلاج بوجه عام في مستشفيات الحكومة.. الناخبون، في تقدير الكاتب الأميركي، لم يصوتوا لرموز هذا التيار، لمجرد أن مرشحيه وعدوهم بالذهاب إلى الجنة كما يشاع، وإنما كان التصويت لأسباب دنيوية وعملية خالصة.. أو هكذا بدا له من خلال جولة يقول إنه قام بها في أرجاء ذلك الحي الشعبي الشهير بالقاهرة.

بالتالي، ليس هناك توضيح من جانبه، عن طبيعة تلك الأفيال، التي استهل بها سطوره، فهو لم يكشف لنا شيئا عن الكيفية التي يمكن أن تطير بها الأفيال عموما، ثم أفياله التي يقصدها بشكل خاص.. ولم يصرح - مثلا - بما إذا كان يقصد بالأفيال، مرشحي التيار الإسلامي، إجمالا، وكيف أنهم - مثلا.. مثلا - تلقوا تربية طويلة على الأرض، على مدى عقود من عمر التيار الذي ينتمون إليه، منذ أسسه حسن البنا عام 1928، حتى إذا تضخموا، وسمنوا، وصار لهم شحم، ولحم، جاءتهم الفرصة التي مكنتهم من أن يطيروا، وأن يبارحوا الأرض التي ارتكنوا إليها، وعليها، طويلا.

ربما قصد هذا المعني، أو شيئا قريبا منه، غير أن ما نعرفه، جميعا، أن الأفيال لا تطير، وأنها إذا طارت، فإن ذلك يكون دائما، على سبيل الرمز إلى معنى محدد، يراد له أن يصل إلى ذهن القارئ، بشكل معين.

وبما أننا نتكلم عن أفيال تطير، وبما أن الذي ضرب المثل بطيرانها كاتب أميركي معروف، فإن مناسبة كهذه تجعلنا نتذكر قصة أخرى مشابهة، كانت تتكلم عن حيوانات تطير، ولكنها، أي الحيوانات في تلك القصة الأخرى القديمة، لم تكن أفيالا، وإنما كانت نوعا من الأبقار!

إذ يقال إن القديس توما الإكويني، كان مع رفاق له في مكان مغلق ذات يوم، وكان أحد هؤلاء الرفاق يقف بجوار نافذة يطل منها الموجودون على الدنيا في الخارج.. وفجأة، صاح ذلك الرفيق موجها كلامه إلى الإكويني، الذي كان يجلس بعيدا عن النافذة، وكان رفيقه الصائح يستحثه على أن يأتي بسرعة إلى النافذة ليرى ما يراه الرفيق إياه، ولا يكاد يصدقه..

استفسر توما الإكويني، قبل أن يتحرك من مكانه، عن طبيعة ذلك الشيء الذي يريده له رفيقه أن يراه، فقال الرفيق، والدهشة تملأ وجهه، إنه يرى بقرة تطير في السماء!.. ولم يكذب القديس توما، خبرا، وقام يسعى نحو النافذة، لعله يرى تلك البقرة التي تطير في السماء، على حد وصف الرفيق.. وما إن وصل إلى النافذة، وراح يتطلع في كل اتجاه، في السماء، حتى فوجئ بأن بقرا من أي نوع ليس موجودا، فلم يكن هناك بقر أمامه على الأرض، فضلا عن أن يفارق البقر الأرض، ويطير في الفضاء.. التفت القديس الإكويني إلى رفيقه يسأله عن مكان البقرة التي أخبره قبل قليل، بأنه يراها تطير، فضحك الرفيق ساخرا من «توما» وسأله بدوره: وهل صورت لك سذاجتك، يا قديس، أن بقرا يمكن أن يطير؟!.. وهنا، وهذا هو الأهم في القصة كلها، رد القديس توما الإكويني بعبارة هي المقصودة بمعناها، من وراء الحكاية كلها.. إذ قال موجها كلامه إلى رفيقه، في أسى عميق: إنني يا صديقي أتصور بقرا يطير، ولا أتصور أبدا رجلا يكذب!

هذا المعنى طاف في ذهني، عندما قرأت مقالة فريدمان، ولم يكن سبب ورود معناها في الذهن، أن كاتب المقالة كان يكذب في شيء، وإنما لأنه، في ظني، كان أولى به، أن يربط المعنى الذي أراده من طيران الأفيال، بالرئيس الأميركي أوباما، قبل أن يربطه بشيء آخر، حتى ولو كان هذا الشيء هو الانتخابات بكل ما جرى فيها، وطرأ علينا من خلالها!

وما أريد أن أقوله، إن المرء يتصور أفيالا وبقرا تطير، ولا يتصور رئيسا في البيت الأبيض يكذب على الناس، فيقول في أول عهده، ما يتناقض تماما مع الفعل من جانبه في آخر العهد نفسه.. إننا نذكر جيدا، كيف أن الرئيس أوباما عندما جاء إلى جامعة القاهرة، وألقى خطابه الشهير في قاعتها الكبرى، بعد توليه السلطة بشهور معدودة.. نذكر أنه قد تعهد بإقامة دولة فلسطينية، إلى جوار الدولة الإسرائيلية، وكان الأمل وقتها، أنه سوف يعمل فعلا في اتجاه تحقيق هذا الهدف، بصرف النظر طبعا عما إذا كان في النهاية سوف يحققه أم لا؟!.. فالمهم أن تصح منه النية، وأن يصح منه العزم.. أما النتيجة أو المحصلة النهائية، فهي في الغالب، ليست في يده، ولا في يد غيره، لأن التوفيق دائما من عند الله، إذا أخذنا بأسبابه.

صدقناه، يومها، وراهنا على أنه، والحال هكذا، لن يسمح بأن تنتهي سنواته الأربع الأولى، في مكتبه البيضاوي، إلا ويكون الهدف الذي قال إنه سوف يعمل من أجله، وتعهد بتنفيذه، قد تحقق، أو كاد، فإذا بنا، اليوم، على مسافة شهور باقية له أقل في عددها، من أصابع اليدين، وإذا بالهدف يتبخر، وإذا به هو نفسه، يعمل على عكس ما كان قد وعد، منذ البداية.. وإلا.. فما معنى أن تقرر إدارته التوقف عن دفع نصيبها المقرر في ميزانية «اليونيسكو» لمجرد أن هذه المنظمة الدولية قد قررت قبول فلسطين عضوا فيها؟!.. بما يعني أن أوباما لو كان صادقا، فيما قاله، ابتداء، لكان هو أول الذين يباركون خطوة كهذه، من جانب اليونيسكو، ولكنه، ويا للأسف، فعل العكس تماما، فعاقبها، بدلا من أن يساعدها، وأثبت لنا، عمليا، أن ما كان قد قال به، عند أول ولايته، كان ضحكا على الذين جلسوا يستمعون إليه، في القاعة، وفي خارجها، على امتداد العالم!

وعندما ناقشت الدكتور بطرس غالي، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، في هذه المسألة، قال ضاحكا: عشان تبطلوا تصدقوا الرئيس الأميركي!.. وما لم يقله د.بطرس، أننا يمكن أن نصدق أن الفيل بمنطق فريدمان، أو البقرة، بمنطق توما الإكويني، يطيران، ولا نصدق أن رئيسا لبلد بحجم أميركا، يكذب على العالم!