امنحوه الحصانة

TT

لا توجد طريقة تغيير واحدة يمكن تطبيقها على كل المجتمعات، فكل بلد له ظروفه وتعقيداته، وعبقرية القوى السياسية التي تتعامل مع لحظة التغيير هي في فهم التعقيدات المحلية وابتكار السياسات التي تستطيع التعامل معها للخروج من أسر الماضي لتحوله إلى تاريخ وتنطلق إلى المستقبل بأقل الخسائر الممكنة.

في العام الماضي بدأت شرارة التغيير في تونس، وانتقلت سريعا إلى مصر، وأعطى السقوط السريع شبه السلمي لرأسي النظام هناك مع الشارع دفعة للأحداث التي تلاحقت في اليمن وليبيا وسوريا. وكان التصور أنه يمكن تكرار السيناريو بالطريقة نفسها، لكن المسار اختلف، فقد دخلت ليبيا في صراع دموي سقط فيه عشرات الآلاف من القتلى، وانتهى رأس النظام مقتولا بالشكل الذي شاهدناه، بينما دخل اليمن في مسار مختلف أشبه بمساومة دموية نظام يعرض ظاهريا مرونة سياسية بيد، ويستخدم العنف بيد أخرى، مع مبادرات خارجية، أهمهما الخليجية، لحلحلة الوضع الذي كان قد وصل إلى شبه طريق مسدود ينبئ بمسار أكثر دموية وعنفا وخطرا على المنطقة كلها. أما سوريا، فلا يزال الصراع دائرا بلا هوادة بين نظام وشعبه.

وفي الحالتين اليمنية والسورية، هناك بعض خيوط التشابه تجعل مسألة التغيير وانحياز مؤسسات من الدولة، كما حدث في تونس ومصر، للشارع أكثر صعوبة، وأهمها السيطرة العائلية على المفاتيح الرئيسية في أجهزة الأمن والجيش من خلال الأقارب أو العائلة، بما يجعل بعض الوحدات العسكرية المقاتلة عائلية أكثر منها محترفة. وفي اليمن هناك بعد آخر مختلف عن سوريا، هو الولاءات القبلية التي بعضها، حتى الآن كما يبدو، لا يزال يدين بالولاء للرئيس.

لذلك ظلت الاحتجاجات والمظاهرات في اليمن طوال شهور طويلة في عملية كر وفر، تخللتها مواجهات شديدة الدموية مع قوات النظام دون حسم نهائي، إلى أن دخلت المبادرة الخليجية التي دعمتها الأمم المتحدة ودول غربية، لإيجاد مخرج يتيح صيغة خروج دون محاكمة للرئيس صالح المفترض أنه سلم سلطاته لنائبه، وإن كان الواقع يقول إنه لا يزال في يديه مفاتيح سلطة وقوة يعرقل بها عملية انتقال السلطة بسلاسة.

وقد دخلت خريطة الطريق التي وضعت في إطار المبادرة الخليجية هذا الأسبوع مرحلة حاسمة بالمناقشات التي تدور في البرلمان حاليا حول القانون الذي يمنح صالح الحصانة من الملاحقة القانونية، والهدف هو تسهيل خروجه النهائي من المشهد ليصبح تاريخا بعد ذلك.

ونستطيع أن نفهم أسباب التعثر الذي يلاقيه مشروع القانون الذي أقرته الحكومة اليمنية أمام البرلمان، فالشارع لديه رغبة قوية في الملاحقة ومحاكمة الرئيس على ما جرى والقتلى الذين سقطوا، والسياسيون والأحزاب في البرلمان يدركون أن الحصانة حتى ولو لم تكن مرضية للبعض، فإنها المخرج من الأزمة ولتفادي الانجرار إلى ما يشبه حربا أهلية وقبلية، لكن أعضاء البرلمان يدركون أيضا أن الشارع الغاضب يمكن أن ينقلب عليهم هم أيضا.

وقد فعل سياسيون يمنيون معارضون حسنا بأن تحدثوا علانية عن تأييدهم قانون منح الحصانة، باعتبار أن ذلك أخف الأضرار أو تنازل يجنب الحرب الأهلية، فدور السياسيين في مثل هذه الظروف هو التحدث بما يمليه عليه ضميرهم، وليس مجرد دغدغة العواطف أو البحث فقط عن الشعبية.

فالبناء للمستقبل أهم من شهوة الانتقام، أما المحاسبة، فهي ستحدث بشكل أو بآخر؛ لأن الحصانة لا تعفي من حكم التاريخ على حقبة حكم، والمحاسبة الحقيقية تجري من خلال الاستفادة مما جرى ومنع تكرار الظروف التي قادت إلى مثل هذه الظروف من خلال تشريعات وقوانين النظام الجديد الذي سيؤسس.