الدولة المصرية الثانية

TT

تكرر الحديث كثيرا في مصر خلال الشهور الأخيرة عن «الجمهورية الثانية» استنادا إلى أن الجمهورية الأولى كانت ما نجم عن ثورة 23 يوليو 1952 من الانتقال من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، فكانت الجمهورية الأولى التي تناوبها ثلاثة من رؤساء الجمهورية: جمال عبد الناصر، أنور السادات، وحسني مبارك، هذا إذا استبعدنا محمد نجيب الذي لم يكن أبدا حاكما فعليا. وعلى الرغم من أن الرؤساء الثلاثة اختلفوا في أمور كثيرة نجم بعضها عن العصر، والبعض الآخر عن التغيرات التي جرت في مصر، والبعض الثالث جاء من الخصائص الذاتية للرؤساء الثلاثة، فإنهم اجتمعوا على أنهم أولا من العسكر، وثانيا على «الفرعونية» التي جعلت كلا منهم «فرعونا» من نوع أو آخر، يقود حزبا مهيمنا، ومعه أجهزة أمنية مسيطرة، وأجهزة إعلامية تابعة تجعل الفرعون يتمتع بحكمة خاصة، وثالثا تدخلا للدولة في المجتمع والاقتصاد بقوة تكفي لوجود الأتباع وأصحاب المصالح قريبين من السلطة، بل ومنافقين لها.

وعلى الرغم مما يبدو من تماثل بين الفراعنة الثلاثة، فإن اختلافهم كان ملموسا، فقد اكتشف عبد الناصر «القومية العربية»، ووجد فيها سلاحا فعالا يعطي المكانة والقدرات، ولكن ثمنها كان في النهاية فادحة، حينما تم احتلال مصر مرتين خلال عهد واحد.

السادات كان الرجل الذي اكتشف وبصراحة أنه «آخر الفراعنة»، ولذا فقد كان عليه تحرير سيناء بالحرب والسلام، ووضع أسس الانفتاح الاقتصادي والتعددية الحزبية التي ادعى بعد ذلك أنها «أزهى عصور الديمقراطية». وحينما جاء آخر الفراعنة بحق، حسني مبارك، استكمل تحرير سيناء، وحاول أن يوازن بين سياسة مصر الخارجية وقدراتها، ولأنه كان يعرف أنه سوف يتحمل أعباء 40 مليونا إضافيين من البشر، فربما كان أكثر من قدم للتنمية المصرية السياسية والاقتصادية، بينما بقي جوهر النظام و«الجمهورية» كما هو.

الحديث إذن عن «الجمهورية الثانية»، وأظن أن السفير عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، كان أول من صك هذا التعبير، هو في معرض وحدة الجمهورية الأولى من حيث الخصائص والجوهر واتجاه الثانية لكي تؤسس لإطار آخر يقوم على الديمقراطية واستيعاب العصر، أو هكذا يعتقد ويظن. والبوادر الأولى تشير إلى أن هذا الاتجاه ربما يكون صحيحا، فقد جرت انتخابات مجلس الشعب بنزاهة مقبولة، وهناك خريطة طريق تقود إلى قيادة مدنية للبلاد تحت راية دستور جديد يستند إلى توافق مدني حول طبيعة الدولة وهويتها الإسلامية. ولكن القصة كلها حتى الآن لم تكتمل، فرغم المدة القصيرة الباقية حتى تنتهي خريطة الطريق إلى موعدها الموعود، فإن الطريق ذاته لا يزال ملبدا بالغيوم، وفيه من العثرات والعقبات ما يجعله (إلى الجمهورية الثانية) غير ممهد على الإطلاق.

والحقيقة أنه لا يمكن الاستغراق في التفاصيل التي تحتاج ما هو أكثر من مقال، وتتطلب ما هو أعلى من التحليل. ولكن البادي في مصر أن الطريق ربما لا يكون إلى «جمهورية ثانية» بقدر ما يكون سائرا إلى «دولة ثانية»، والفارق بينهما أن الأولى امتداد للجمهورية الأولى مع تغيير في النظام السياسي، وجوهرها قابلية الفرعون للتغيير على فترات دورية حتى ولو امتدت «الفرعونية» لأزمنة مقبلة تحت جناح وقدرة تيار سياسي رئيسي مهيمن، له اليد الطولى في التحالفات السياسية والتوجهات الجوهرية للنظام، وأكثر من ذلك القدرة الحقيقية على تعبئة الجماهير وحشدها، وهي القدرة التي عجزت كل فترات جمهورية يوليو الأولى عن الحصول عليها، واستبدلت بها الأجهزة الأمنية لكي تقوم مقامها.

في مثل هذه الحالة، فإننا نصبح أمام دولة مصرية ثانية، فإذا كانت الدولة الأولى في العصر الحديث قد قامت على يد محمد علي عام 1805، واستمرت تأخذ أشكالا عثمانية تعتمد على الفرمان العثماني لتعيين الولاة والسلاطين، أو أشكالا ملكية بعد أن استقر الأمر للأسرة العلوية بعد استقلال البلاد عام 1922، أو حتى أشكالا جمهورية بعد ثورة يوليو؛ فإن الجوهر القائم على الفرعون والفرعونية ظل قائما يحدث البلاد أحيانا، ويدفعها إلى الخلف أحيانا أخرى، يقدمها للاحتلال لقمة سائغة أو يحررها بشجاعة فائقة. وبالتأكيد تغيرت مصر خلال الدولة الأولى وخرجت تماما من الأسر العثماني، وربما لحقت ببعض العصر والحداثة، ولكنها لم تلحق أبدا بركب الدول المتقدمة، بل إننا لا نجد ذلك واحدا من الأهداف الكبرى للملوك والقادة والزعماء.

الدولة المصرية الثانية ربما تكون مختلفة، إذا جاءت في صورة الفرعونية من دون الفرعون، وساعتها ربما يكون للدولة آيديولوجية لم تتيسر لها طوال العصور المختلفة، بحيث تكون قادرة على حشد الجماهير ودفعها إلى صناديق الانتخابات. هذا لم يحدث من قبل في الدولة الأولى، حيث لم تزد الآيديولوجية عن قشور وأناشيد في الإذاعة وصورة في التلفزيون. ومن الجائز أخيرا أن الفصل بين الفرعون والفرعونية ربما يفتح الباب لما هو أعمق وأكثر ديمقراطية.

والشاهد على ذلك أن مؤسسة الأزهر، التي قدمت «عمر مكرم» وهو يدفع محمد علي الكبير إلى أن يكون واليا على مصر بإرادة الشعب المصري وتصديق الباب العالي، تجد الآن الإمام أحمد الطيب يقود مسيرة الدولة الجديدة، من خلال وثيقتين: الأولى ما عرف بوثيقة الأزهر التي تحدد المبادئ الأساسية لدستور مدني ديمقراطي في دولة مؤمنة وعارفة بالقيم المقدسة. والثانية ما عرف بوثيقة الحريات الأساسية التي تضع «حقوق الإنسان المصري» في الصدارة من نصوص الدستور المقبل، وبحكم توقيع الأحزاب والقوى السياسية عليها، فإنها تصبح ميثاقا للحياة السياسية.

كان الأزهر شاهدا وموجودا ودافعا لوجود الدولة الأولى، وهي تخرج من عباءة الدولة العثمانية لكي يكون لها كيانها الخاص والمستقل، الذي استمر على مدى أكثر من قرنين، اجتمع فيه الفرعون والفرعونية ومحاولات التحديث في حزمة واحدة، كما كان موجودا وشاهدا ومشكلا لدولة جديدة تضع حدودا وحواجز على «الفرعونية» بعد أن زال الفرعون. أن يكون الأزهر مؤسسة دينية تقود في لحظة تاريخية عملية تشكيل دولة جديدة يبدو غريبا على رياح الثورة والفورة التي تعيشها مصر، بل والمقاومة التي تفرضها قوى علمانية تريد التخلص من ميراث الدولة الأولى مرة واحدة وإلى الأبد. إلا أن الواقع هو أن ذلك هو ما يحدث على الأرض، وربما تكون فيه جزء من المناورة والالتفاف حتى يتم التغيير فتبقى الفرعونية وتزول حواجزها وقيودها وحقوق الإنسان فيها، ولكن من يعلم أن ذلك حتمي بالضرورة؟! ما نعرفه أن التاريخ يتشكل أمام أعيننا لحظة بلحظة، وفيه من التفاصيل والتناقضات والإثارة ما يذهب بالعقول، وليس أمامنا أمر آخر إلا المتابعة والمراقبة والانتظار، فليس شهر يوليو ببعيد.