إسرائيل هزمتنا بديمقراطيتها وتخشى الثورات العربية!

TT

لا نقاش إطلاقا في أن إسرائيل التي بقيت تسوق علينا في هذه المنطقة وفي العالم كله أنها أهم دولة مخابراتية واستخبارية في هذا العالم، وأن جهاز «الموساد» يعرف حتى ما تحت أظافر العرب وما في قرارة نفوسهم، قد فاجأتها أحداث وتطورات ثورات الربيع العربي، وأنها في البداية عندما تفجرت الأوضاع في تونس قد نظرت إلى المسألة على أنها حالة «نزق» عابرة، وأن زين العابدين بن علي بأجهزته القمعية المدمرة التي كانت أنهت «ثورة الخبز» في عام 1986 بلمح البصر، سوف يطفئ النيران التي أشعلها الشاب الجنوبي بوعزيزي بعد أن أشعل نفسه قبل أن تخرج ولو شرارة واحدة منها من قرية بوزيد.. وهذا ينطبق على ما جرى في مصر في البدايات، وأيضا على ما جرى في «جماهيرية» القذافي المقبورة.

كانت إسرائيل مرتاحة لهذا الواقع العربي الذي بقي مستمرا منذ عام 1948 الذي غلب عليه طابع أنظمة «ديكتاتوريات» الانقلابات العسكرية التي قادت العرب إلى هزائم منكرة في كل حروبهم مع الدولة الإسرائيلية، وكانت لديها، أي إسرائيل، قناعة رسختها مراكز بحوثها التي تعتز بها وأجهزتها الاستخبارية التي تعتبرها المتفوقة في هذه المنطقة، أن العرب لن تقوم لهم قائمة، لا في هذا العصر ولا في العصور القريبة المقبلة، وأن الشعوب العربية خانعة، وأنها لا تعرف الكرامة ومجرد رعايا لذوي الصولجانات وأصحاب الكرابيج والسجون والزنازين الانفرادية.

كل هذا كان يجعل إسرائيل تضع رأسها على وسائد من ريش النعام وتنام ليلها الطويل، وبخاصة أن خصمها الفلسطيني، الثورة الفلسطينية، قد أمضت كل عمرها مهاجرة وفي حروب طاحنة مع الأنظمة العربية أكثر مما هي في حرب معها، وكان وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه دايان ذو العين المفقوءة التي كان يغطيها بـ«جلدة» كالقراصنة يردد دائما وأبدا وهو مرتاح البال: إننا لن نخشى العرب إلا عندما نراهم لا يتزاحمون عند أبواب الصعود إلى الحافلات وإذا رأيناهم ينتظمون بهدوء في أرتال منظمة وطوابير أمام المحال التجارية!!

ولذلك ولتعزيز هذا الواقع العربي المزري وإدامته وتثبيته فقد بقيت إسرائيل تسهر وتسخر كل جهودها لتواصل التلاعب بالخلافات والتناقضات العربية، وهكذا فإنها قد ساهمت مساهمة رئيسية في إقامة نظام إقليمي كرسه حافظ الأسد والذين ورثوا نظامه لأكثر من أربعة عقود متواصلة ومتلاحقة وزاده تكريسا هذا النظام الإيراني المذهبي الذي على رأسه رجل يدعي عصمة الأنبياء ويمارس أسوأ استبداد ديني لم تمارس مثله حتى الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، هو علي خامنئي وإلى جانبه رئيس للجمهورية لا يزال يسعد الإسرائيليين ويريحهم بتهديداته الجوفاء التي تذكر العالم بما كان فعله أدولف هتلر والدولة النازية.

كانت إسرائيل عندما داهمتها هذه الثورات العربية تنهمك في تثبيت هذا النظام الإقليمي البائس، وكانت لا تريد أي اهتزاز له، ولذلك فإنها قد أصيبت بالذعر الشديد عندما تأكدت من انهيار حسني مبارك أمام ضغط ثورة شبان ميدان التحرير، وعندما أحست بأن زلزال المنطقة بدأ يضرب نظاما سوريا مخادعا بقي يرفع شعار «حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد»، وشعار «الممانعة والمقاومة»، الذي شاركته فيه إيران وحركة حماس، وشارك فيه حزب الله وكل المزايدين العرب والأحزاب العربية التي تعيش بطالة سياسية قاتلة، بينما هو يحرص حرصا شديدا على منع حتى العصافير من اختراق حدود هضبة الجولان المحتلة، ولهذا فإن آخر ما سمعناه من وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك هو أنه لا بديل للأسد، وأنه لا ضرورة لأي تدخل دولي وهو أن إسرائيل بقيت تضع العصي في دواليب كل محاولات التحركات الدولية لإسعاف الشعب السوري الذي بقي يواجه رصاص هذا النظام الدموي بصدور أطفاله كل هذه الفترة الطويلة، وكل هذا بحجة أن البديل غير معروف، وأنه قد يكون «الإخوان المسلمون» ومعهم مجموعات إرهابية متطرفة وغير منضبطة!!

إسرائيل كانت، ولا تزال، حريصة كل الحرص على هذا النظام وعلى ضرورة إبقائه والحفاظ عليه حتى ولو اقتضى الأمر إلى التدخل العسكري في لحظة من اللحظات، بحجة أن أمنها أصبح مهددا من قبل بديل عنوانه «الإخوان المسلمون» وبعض القوى المتطرفة، ولعل ما هو معروف لها ولغيرها هو أنه عندما اضطرت سوريا لدخول حرب عام 1967 وكان وزير دفاعها يومذاك حافظ الأسد ما غيره كان خيرة ضباط الجيش السوري في السجون والمعتقلات، وكان الطيارون الأكفاء فعلا محرومين من إجراء تدريباتهم بالذخيرة الحية، وكانت المرة الأولى التي سمح لهم باستخدام هذه الذخيرة بعد يومين من بدء القتال في تلك الحرب التي احتل فيها الإسرائيليون هضبة الجولان ووصلت طلائع دباباتهم إلى منطقة يعفور على بعد بضعة كيلومترات من العاصمة السورية.

وبالطبع، فإن وضع مصر عشية هذه الحرب وخلالها وبعدها لم يكن أفضل من هذا الوضع المزري الذي كانت تعيشه سوريا وما زالت تعيشه، فقد كان هناك مدير الاستخبارات المرعب صلاح نصر، وكان هناك المشير عبد الحكيم عامر وزمرته الفاسدة، وكانت هناك حرب اليمن المكلفة التي كان افتعلها جمال عبد الناصر تحت ضغط نزواته الثأرية والتمددية، كما كان هناك غياب الرقابة والصحافة الحرة وعدم وجود أي أحزاب معارضة، ولهذا وهذه حقيقة من المفترض أنها معروفة ولا نقاش فيها، فقد بقيت إسرائيل تلحق بنا كل هذه الهزائم وأكثرها فداحة حرب يونيو (حزيران) 1967 ليس بجيوشها ولا بدباباتها وسلاحها الجوي وقدراتها العسكرية المتفوقة، وإنما بديمقراطيتها وبإنسانها الحر وبجنودها الذين لم تنهكهم ولم تستهلكهم لا صراعات قادتهم ولا الانقلابات العسكرية الدموية المتلاحقة.

ولذلك فإن إسرائيل قد أصيبت بذعر حقيقي عندما تأكدت من جدية هذا الذي يجري في المنطقة العربية ومن أن هذه التحولات لا يمكن إلا أن تؤدي إلى ديمقراطية.. إن هذا هو ما يخيفها وإنها بقيت تخشى من أن تصبح شعوب هذه المنطقة هي صاحبة قراراتها المصيرية وليس القادة الملهمين ولا أنظمة الانقلابات العسكرية التي سميت زورا وبهتانا ثورات تقدمية، والآن فإن الخوف كل الخوف هو ألا يدرك «الإخوان المسلمون»، ومعهم التيارات الدينية التي تشاركهم فيما أسفرت عنه معركة صناديق الاقتراع في مصر وتونس والمغرب وربما لاحقا في ليبيا وسوريا كل هذه الحقائق، وأن تستبد بهم شهوة الحكم ويكرروا هذه الحالة المأساوية السابقة ولكن باستبدال الاستبداد «التقدمي والثوري والمقاوم» باستبداد ديني سيكون أشد قسوة، إن هو حصل فعلا، مما كان قائما، وإنه سيعيدنا حتما إلى أوضاع ما قبل العصور الوسطى التي كانت سائدة، إن في بلادنا البائسة وإن في أوروبا الكاثوليكية.

بعد زوال الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي في بدايات تسعينات القرن الماضي وبعد أن فقدت إسرائيل وظيفتها القائمة على كذبة أنها المخفر الأمامي والخندق المتقدم لصد المد الشيوعي ومنعه من الوصول إلى هذه المنطقة الحيوية استنبط الإسرائيليون كذبة جديدة هي أن هناك خطرا إسلاميا أصوليا زاحفا نحو الغرب وحقيقة أن بروز «القاعدة» والإرهاب وأسامة بن لادن قد أعطى لهذه الكذبة مصداقية ترسخت بعد جريمة وكارثة عام 2001، والآن فإن أكبر خطر على هذه الثورات العربية هو أن تختطفها الأحزاب الشمولية كالإخوان المسلمين وبعض حلفائهم، وأن ترفض هذه الأحزاب التعاطي مع معطيات المرحلة التاريخية المستجدة وتبقى تتمسك بمواقفها ومنطلقاتها السابقة، فهذا إن هو حصل فإنه ما يريده الإسرائيليون الذين انتصروا علينا بديمقراطيتهم وليس بجيوشهم، والذين يخشون كل الخشية من أن نمتلك نحن هذا السلاح الفتاك الذي بقوا يلحقون بنا الهزائم المتلاحقة من خلاله.