العملاق المزكوم

TT

عبر بعض القراء، ومنهم جاسم محمد، عن اعتراضهم على قراري للعام الجديد: لا أقرأ أي شيء عن العراق، ولا أكتب أي شيء عن فلسطين. مازن الشيخ يقول: لن تستطيع الالتزام بقرارك.

يا سيدي، إنني معتاد على تحاشي أي مصاب بالزكام والإنفلونزا. سمعنا عن رجل آسيا المريض، الإمبراطورية العثمانية، والعملاق النائم، الصين. هناك أيضا العملاق المزكوم، وهو العراق. خطر لي ذلك عندما اتصلت بي سيدة تعزم على مشروع فكري، سألتني: كيف أحصل على جمهور له، قلت عليك بالعراقيين، اضمني مشاركتهم لتضمني النجاح، ذكرتها بالقول الشائع: مصر تكتب ولبنان تنشر والعراق يقرأ، ويقول الناشرون: لا تنشر قبل أن تضمن دخول كتابك للعراق، فلشعبه هوس بالمعرفة والتفكير الحر. حاولت شتى الدول العربية إقامة مراكز ثقافية في لندن. استمر كل منها بضعة أشهر ثم أغلق أبوابه، باستثناء العراق، أصبح المركز الثقافي العراقي من المراكز الثقافية المهمة في لندن، كما أشارت إليه «الأوبزيرفر»، وظل كذلك لسنوات حتى سقوط صدام حسين، شاركه في المسيرة ديوان الكوفة الذي أصبح هو الآخر مركزا رئيسيا للنشاط الفكري العربي، واستمر لنحو عشرين عاما حتى مرض وتقاعد صاحبه محمد مكية. الطريف فيه أنه كان مشروعا فرديا اعتمد اعتمادا كليا على نفقته، ومعهما نشط ديوان الآرك الذي بني واعتمد على جهود الفنان يوسف الناصر، ولدينا الآن بيت السلام الذي أقامه محمد حسين الصدر ليصبح مركزا للحوار الإنساني.

لا عجب أن تصبح بغداد في القرون الوسطى، وقبلها بابل، المركز الرئيسي للفكر والحضارة، فبينما كان العالم يغط بالنوم، انبثق نور المعرفة في مصر وسومر، توصل الفراعنة لفكرة الخلود والعالم الآخر، فراحوا ينفقون كل مواردهم على بناء القبور الوفيرة يدفنون فيها ذهبهم وثروتهم. سعى الملك غلغامش في سومر للحصول على الخلود ففشل، وارتأى أن لا خلود للإنسان، فكل واشرب وتنعم، فهذه الحياة هي كل ما عندك، بينما انهمك ملوك مصر ببناء القبور، انشغل ملوك بابل ببناء الجنائن المعلقة.

بامتداد هذا الخط العقلاني العلماني، قامت مدرسة المعتزلة في بغداد، وظهرت مجموعة الشعراء المجان، وفي خمسينات القرن الماضي، راح المفكرون العرب يتدفقون على بغداد التي أصبحت سوق عكاظ للماركسية والوجودية والبعثية والشعر الحر والحداثة، لم يستطع «الإخوان المسلمون» أن يجدوا فيها نصيرا واحدا.

لا تخشى إسرائيل دولة كما تخشى العراق، ولا تراها تنفك عن ذكر ما فعله الآشوريون ثم الكلدانيون بدولتهم القديمة. الحرص على تمزيق العراق ركن مفهوم من أركان الاستراتيجية الإسرائيلية، لا ينبغي لهذا العملاق أن يقف على قدميه، فتركوه عليلا على فراشه.

كلما أسمع عن المواكب المليونية، وأنظر لمشاهد اللطم أسائل نفسي: أهذا هو العراق حقا؟ وأتذكر شبحا من أشباح الجاحظ في ازدواجيته وسخريته وشكوكه، يبدو لي وكأنه يلطم والضحكة الساخرة في أعماق قلبه، متى ستنفجر هذه الضحكة الساخرة فنسمع دويها، ويستفيق العملاق من زكامه، ويتخلص من سعاله وبلغمه المليوني، فأزوره وأحتضنه وأسأل عن أخباره، وأحنث بقراري للعام الجديد؟