ثلاثة نبلاء.. بالأسود والأبيض

TT

يتذكر العالم هذه الأيام ثلاثة رجال، لا تغيب ذكراهم عن بالي وضميري: أبراهام لنكولن، الذي خاض الحرب الأهلية من أجل تحرير أميركا من وصمتها الكبرى: الاستعباد. ومئوية حزب المؤتمر القومي في جنوب أفريقيا، التي جرت في غياب عظيمه نيلسون مانديلا. وذكرى ميلاد مارتن لوثر كنغ (15 يناير/ كانون الثاني 1929) الذي اغتيل وهو في التاسعة والثلاثين من العمر.

لا أعتقد أن البشرية عرفت ظلما أفظع من الظلم العنصري، بأنواعه الكثيرة. لكن أكثر آلامها وآثامها هولا كان معاملة الغرب للأفارقة. ودور بعض العرب أيضا. وهؤلاء النبلاء الثلاثة تحدوا الرجل الأبيض حتى الموت أو السجن: أبراهام لنكولن الرجل الأبيض البسيط الذي انفجر ضاحكا عندما قالت له زوجته سوف تصبح ذات يوم رئيسا على أميركا. انفجر ضاحكا حتى وقع أرضا وهو يقول: «مَن أنا يا امرأة حتى أصبح رئيسا؟». لكنه أصبح أنبل رؤسائها عبر التاريخ.

والرجل، المحامي، نيلسون مانديلا، الذي قرر أنه سوف ينهي حكم الرجل الأبيض في القارة السمراء. من خارج السجن أو من خلف الجدران العالية. في هدوء وحكمة راح يفكك الجدار الفاحم الذي وضعه المستعمر الأبيض بين الناس. كان مثاله غاندي، المحامي الهندي، الذي مُنع من ركوب حافلة البِيض في جنوب أفريقيا، فقرر أن يعود إلى الهند ليحارب المستعمر الأبيض من هناك.

سحر مانديلا سجانيه، الذين صاروا يهربون له الشاي المعطى لهم. ثم خرج فسحر العالم بتسامحه ورفعته. وجعل الدنيا تبتسم لسلوكه الطفولي وعفوه الدائم. وعندما تخلت عنه اللبوة التي كانت ذات يوم حبيبته وزوجته، لم يكن يملك نفقة الطلاق، فدفعها لها ملك ملوك أفريقيا.

كنت أتابع نيلسون مانديلا ومارتن لوثر كنغ في مهنتي بمشاعر الشباب الفائضة، ولم أفقدها حتى اليوم. ذات يوم ترجمت نبأ من فيلادلفيا خلاصته أن كنغ خاطب رئيس الشرطة قائلا: «أشعر في أعماقي أن القتلة حولي في هذه اللحظة». ثم التفت إلى المتظاهرين البِيض ضده وقال: «ما من رجل يخيفني». حمل بشجاعة شعاره التاريخي الجميل: «إنّ لي حُلما». وكان الخطيب الساحر يكرر: «أميركا، بلاد الأحرار والشجعان. الأبيض الحر والزنجي الشجاع». وظل الشجاع يناضل حتى صار حرا.

ثلاثة رجال، في أزمان مختلفة، في قارات مختلفة، نقلوا الإنسانية من مرتبة التوحش. اثنان دفعا حياتهما ثمنا بالموت، وثالث دفع الثمن سجنا في عز الحياة. يكتب باراك أوباما اليوم أنه يقضي أوقات التأمل في الجناح الذي يحمل اسم لنكولن، وقد ذهب لحضور الاحتفالات بذكرى مارتن لوثر كنغ. أما مانديلا فقد اضطرته الشيخوخة إلى الغياب عن الاحتفال به. وظلمها ليس أقل قسوة من ظلم الرجل الأبيض. هي أيضا سجن ولكن بلا أسوار.