العرب بين «ماما» أميركا و«خالتي» إيران

TT

من حانة التاريخ العتيق، كأن أبا نواس يطل على عصر الفوضى الدولية الراهنة، ناصحا إيران بإدخال لسانها قليلا في فمها. فالصمت عنده «خير من داء الكلام». إيران خامنئي / خميني بالغت في ترويج ثقافة العداء الفارغ والمتواصل لأميركا، فباتت أشبه بـ«خالتي» الثرثارة. سخنت الثرثرة مياه الخليج. فأشاعت التوتر من طهران إلى لبنان. وصل التوتر إلى حد المناطحة بين الأساطيل الحربية.

الكل يثرثر. أحمدي نجاد. حسن حزب الله. الحكواتي بشار. ماما هيلاري. والعمة أنجيلا ميركل. قاسم سليماني شبيح فيلق القدس يقول إنه موجود في جنوب العراق وجنوب لبنان. لا تنس مولانا أبو الكلام داود أوغلو. ثم أوباما. ساركوزي. هوغو شافيز... وحتى غليون و... هيثم مناع يعانيان من داء الكلام. لكن «أسمع جعجعة. ولا أرى طحنا». ما زالت إيران تفضل محاربة أميركا وإسرائيل، بكل شيعي في لبنان، وبكل سني في مستودع حماس وجهاد غزة.

كلما ازدادت آلام البطن، علا الصراخ والتأوهات. بعد أكثر من ثلاثين سنة خمينية، وجد الملالي وميليشيات الحرس الثوري وفيلق القدس، أن إضفاء «القداسة الغيبية» على تزييف انتخاب وترئيس أحمدي نجاد، غير كاف لحماية النظام من أميركا، ولا من خيبة جيل إيراني جديد. يائس. عاطل عن العمل.

مشروع اختراق «خالتي» إيران للمشرق العربي، والإنفاق على «معجزتها» النووية، استنزفا مواردها النفطية. واستفزا أميركا وأوروبا. ففرضا عقوبات تأديبية قاسية، قد تصل، إذا استمرت الثرثرة الساخنة فوق مياه الخليج، إلى مقاطعة نفطية ومصرفية، تشل انطلاق «البالون» النووي.

العقوبات بدأت تفعل فعلها في إيران وسوريا: بطالة. جمود اقتصادي. انهيار سعر العملة. تضخم (غلاء). نظام بشار يفقد السيطرة على جزر ترابية متمردة. ومتوسعة. بل بات عاجزا عن تأمين الكهرباء. المياه. المازوت لعشرة ملايين إنسان في مدينتي دمشق وحلب.

هنا يتدخل بوتين بلا ثرثرة. يبدو غير خائف من قنبلة «خالته» الودودة إيران. وزير خارجيته سيرغي لافروف رسم خطوطا حمراء: تدخل غربي في سوريا «خط أحمر». قصف إيران «كارثة ذات نتائج وخيمة» على علاقة الغرب مع روسيا. المشروع الروسي الذي قدم إلى مجلس بلا أسنان رادعة للمجزرة.

«الفيتو» سلاح روسيا السلمي. لكن هل يمنع حربا؟ منطقيا، الحرب مستحيلة، إلا إذا احتك مركب كاتيوشا إيراني، بحاملة طائرات أميركية. أو إذا تسللت إسرائيل. وقصفت منشآت نووية إيرانية، تاركة «التفاصيل» للغرب، لمسح آثار العدوان.

بشار المستفيد الأكبر من الخط الروسي الأحمر. فقد بات في حماية الأسطول الروسي الذي يعبر مضيق البوسفور بإذن تركي. تركيا ملتزمة بالقانون الدولي الذي يضمن حرية الملاحة في المضائق البحرية، بعد استئذان رسمي من الدولة الرابضة على الضفاف.

يبدو أن تركيا نمر من ورق. فقد ظهر الآن أن الكلام التركي عن التدخل لحماية الانتفاضة السورية مجرد ثرثرة تخفي الخوف من الدب الروسي الرابض خلفها. وحالها كما صور المتنبي مأساة سيف الدولة الواقع أسيرا بين ردم بيزنطة والمسلمين السلاجقة:

وسوى الروم، خلف ظهرك روم

فعلى أي جانبيك تميل؟

الدبلوماسية ثرثرة صامتة. في السر، يمكن التنازل عن الكبرياء، وحتى عن نبض الكرامة والسيادة، للتوصل إلى تسوية يمكن تسويقها إلى جمهور ساذج. ها هي إيران تتراجع خوفا من المقاطعة النفطية والمصرفية. وها هي أميركا تتنازل.

لترغيب إيران في العودة إلى غرفة المفاوضة، أعلن ليون بانيتا وزير دفاع أوباما أن إيران تستطيع امتلاك تقنية صنع قنبلة نووية. لكن أميركا ستتدخل إذا حاولت إيران صنعها. في سنة انتخابية، يحرص أوباما على الظهور بمظهر حمامة مسالمة عالميا. بل أجل المناورات العسكرية مع إسرائيل. وأرسل كبير جنرالاته مارتن ديمبسي لهدهدة غضبها. وتحذيرها، في الوقت ذاته، من التفرد بقصف إيران.

بعد الخطوط الحمر الروسية، أعلن إيهود باراك أن لا خطط لدى إسرائيل لقصف إيران. باراك هو أيضا ثرثار لا أحد في إسرائيل والمنطقة يثق به. تبقى الغارة الإسرائيلية احتمالا واردا في أية ساعة.

إيران، في مقابل «التنازلات» الأميركية، تراجعت. سحبت تهديدها بإغلاق مضيق هرمز «إلا إذا تعرضت لعدوان» حسب وزير خارجيتها علي صالحي. ومن دون أن تتخلى عن ثرثرتها. قبلت بالعودة إلى المائدة التفاوضية بعد التهديدات الأوروبية بمقاطعتها مصرفيا ونفطيا. ألغت شروطها السابقة لاستئناف المفاوضات مع ألمانيا ودول «الفيتو» الخمس. لم تعد تطالب بإلغاء العقوبات مسبقا. أو ترفض البحث في مشروعها النووي (هدف كل مفاوضة).

أين العرب بين «خالتي» إيران المشاغبة. الثرثارة و«ماما» أميركا الحاضنة لعرب الانتفاضة، والمرضعة للنظام «الإخواني» لبن الوصاية الحانية؟ هؤلاء توقفوا عن ترداد ببغاوية مجاراة سوريا لثقافة العداء الإيرانية للشيطان الأكبر (أميركا). فقد انكشف الغرض من شعارات الصمود. التصدي. المقاومة. الممانعة، لإدانة أنظمة جمهورية مسيلة للدموع والدماء.

عرب الفريق ضاحي خلفان عاتبون على أميركا، ولو كانت ضامنة لأمن الخليج، بعدما سلمت عروبة العراق لأشياع إيران. جاراه في ذلك أمير السياسة والدبلوماسية تركي الفيصل. لكن الفريق خلفان لم يرسم خريطة للخروج من الدوامة. وحده العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز ذكر الخليجيين بقيمة الانتقال من «التعاون» إلى الاتحاد. وكأنه يستشهد بالشاعر الذي نصح العرب «فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد».

لعل الانشغال الخليجي بهم «الخالة» الإيرانية يضفي بعض الفتور على العلاقة الخليجية مع عرب الانتفاضة الذين أوصلوا، بسرعة ساذجة، الهودج «الإخواني» إلى سدة السلطة. العداء الإخواني للنظام الخليجي قد يحول دون تمويل الخليجيين بسخاء لتنمية وتطوير مجتمعات الانتفاضة. ويعكس انقساما عربيا حادا حول الأزمة السورية.

يبدو الخليجيون (ربما باستثناء القطريين) غير راغبين بإيصال المد الإخواني إلى سوريا. وبالتالي فهم مترددون، في تدويل بشار. بإحالته إلى مجلس الأمن، أو إلى محكمة الجرائم ضد الإنسانية.

لكن ما هو الحل لثرثرة إيران النووية؟ الحل المنطقي. والافتراضي يقضي بالتفاوض، على تجريد المنطقة العربية من أسلحة الدمار الشامل، وفي مقدمتها الأسلحة النووية الإسرائيلية والإيرانية. مع الأسف الحل الواقعي يفرض إمساك الغرب الصعب الأذن اليسرى باليد اليمنى. تهديد إيران بنزع أسنانها النووية، يظهر وكأنه محاولة لحماية احتكار إسرائيل للقنبلة المخيفة.

هل إسرائيل أعقل من إيران في وضع الإصبع على الزر النووي؟ أبدا، في حرب أكتوبر (تشرين الأول) عندما تقدم المصريون في سيناء، والسوريون في الجليل الأعلى، وضعت العجوز غولدا أصبعها على الزناد النووي. حتما، نتنياهو. أو باراك. أو ليبرمان. أو حتى تسيبي ليفني مستعدون للضغط على الزر لتدمير أكثر من عاصمة عربية، لو انطلق صاروخ إيراني نووي باتجاه إسرائيل.