سائح في الزبداني

TT

في صيف عام 1989، قررت عائلتي الذهاب إلى سوريا لقضاء العطلة الصيفية. كانت الخطة أن تمضي العائلة بعض الوقت في دمشق، ثم تتحول إلى السكن في واحد من البيوت الريفية المطلة على البساتين في الزبداني. كان السرور والفرح يطغيان على تفكيري وأخي الأكبر، لمجرد السفر إلى الخارج، هروبا من رتابة الصيف والحر في مدينة الرياض، ولكن بعد قضاء أيام عدة في فنادق دمشق، وجدنا أنفسنا في بيت ريفي واسع ذي أبواب وشبابيك متعددة، تحيطه غابة من الأشجار المترامية. لم يكن في البيت أي من وسائل الحياة الحديثة ما عدا تلفازا عتيقا (أبيض وأسود)، وثلاجة تعمل بمولد كهربائي صغير، ولكن كان ثمة مشكلة، وهي أن الكهرباء لا تعمل إلا ساعات محددة من الليل.

في الأيام الأولى شعرنا بالملل والضجر، فلم تكن هناك رسوم كرتونية نشاهدها أو ألعاب فيديو نصرف فيها الوقت، ولكن بعد بضعة أيام تعرفنا إلى بعض الصبية في المنزل المجاور، والذين بدورهم تطوعوا لتعريفنا على مدينتهم ذات الشوارع الصغيرة، وتمضية الوقت في بساتين الفاكهة، وشراء البوظة الشامية من حوانيت المدينة القديمة.

أكثر ما لفت نظري وأنا صغير أمران: العوز الاقتصادي وشظف العيش اللذان يعاني منهما أبناء ريف دمشق، ولكن لم يدر بخلدي أبدا أن تلك المدينة الريفية الجميلة الزبداني ستتحول في يوم من الأيام إلى مدينة أشباح تحاصرها الدبابات، ويتم قصفها وتضييق الخناق على سكانها، إلى الحد الذي تتدافع فيه الأسر العزلاء للهروب منها سيرا على الأقدام.

بثت قناة «سي إن إن» (15 يناير/كانون الثاني) أول تقرير إخباري من داخل المدينة المحاصرة، كاشفة عن وضع إنساني كارثي ومثير للانزعاج. أهالي المدينة فوجئوا بطاقم «سي إن إن» الذي تمكن، من دون علم قوات الأمن، من الالتحاق بأحد فرق المراقبين العرب قبل دخول الزبداني، والجيش السوري الذي يحاصر المدينة فوجئ هو أيضا بكاميرات الشبكة الأميركية وهي تخرج، متجهة نحوه بعد انتهاء المراقبين من الزيارة. كانت هناك فورة حماس وعواطف جياشة على الجانبين، الأهالي لم يستطيعوا السيطرة على مشاعرهم لفظاعة ما يجري لهم، وكذلك الجنود السوريون الذين بدوا غاضبين وقاموا بسحب جثة زميل لهم، مطالبين القناة بتصويره ليرى العالم أن المظاهرات ليست «سلمية». مراسل القناة نيك روبرتسن قال بعد خروج فريق التصوير من المنطقة إن المشاهد تذكر بالصور الأولى التي كانت تخرج بعد حوادث التطهير العرقي في البوسنة، حيث حرب أهلية على الهوية والطائفة.

في رأيي، هناك جانبان للأزمة السورية: أحدهما صراع سياسي، والآخر صراع طائفي، وسيكون من الخطأ إغفال أحد الجانبين لصالح الآخر. فمن جهة يمكن النظر للأزمة بوصفها مظاهرات سلمية مناهضة للنظام، تحولت مع الاستخدام المفرط للقوة إلى ثورة تطالب بإطاحة النظام سواء عبر العصيان المدني وانشقاق داخل الجيش، أو الاستنجاد بالتدخل العربي والدولي. وفقا لهذا التقدير تكون حكومة البعث السورية عبارة عن نظام ديكتاتوري عنيف تنبغي إطاحته لتحرير المدنيين العزل. بيد أن هناك جانبا آخر للصراع وهو طائفي، حيث تتعارك فيه الطائفتان الكبريان في سوريا - السنة والعلويون - فمن جهة تسعى الغالبية السنية لإسقاط دولة العلويين، فيما يقاتل العلويون - بمساندة إيرانية ومن حزب الله اللبناني - للحيلولة دون هيمنة السنة على سوريا ما بعد الأسد. أما الأقليات الأخرى فباتت مجبرة على الاصطفاف مع هذا أو ذاك. إذا كنت من المؤيدين لتدخل عسكري عربي أو دولي (كما طالب بذلك أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة) فأنت ربما ترى الأزمة السورية من جانبها الإنساني أو السياسي. أما إذا كنت معارضا للتدخل العسكري، فأنت قد تكون من حيث المبدأ، معارضا للتدخل الغربي في بلد عربي أو مسلم (كما يروج لذلك الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي) أو ترى الأزمة من جانبها الطائفي، بحيث يكون العمل العسكري ترجيحا لكفة طائفة على أخرى.

الجدل الدائر بين المطالبين بسحب المراقبين وتحويل الملف إلى مجلس الأمن، أو أولئك الذين يحاولون تجنيب النظام السوري مصير النظام الليبي، هو انعكاس لوجهتي نظر متباينتين حول الأمن الإقليمي، وربما تحول ذلك مع الوقت إلى محاور سياسية كمحوري الممانعة والاعتدال خلال العقد الماضي. ليس سرا أن دولا مثل الجزائر والسودان والعراق ولبنان ما زالت تعطل أية محاولة قد تمهد لإسقاط الرئيس الأسد عسكريا، ولهذا فإن الأزمة السورية قد تتحول مع الوقت إلى مشكلة إقليمية دائمة تماما، كما كانت لبنان بعد نشوب الحرب الأهلية.

قرار السعودية سحب بعثتها هو خطوة في الاتجاه الصحيح، إذ إن مبادرة الجامعة الجديد التي تدعو الأسد إلى تفويض صلاحياته إلى نائبه لتشكيل حكومة جديدة، بالتوافق مع المعارضة، هي دعوة فات موعدها بعد مرور تسعة أشهر من المواجهات العنيفة بين نظام الأسد وقطاعات واسعة من الشعب السوري، ثم إن الدعوة إلى اللجوء للأمم المتحدة للمساعدة، ولمجلس الأمن لمناقشة القضية بعد كل ما حدث، لا تعكس أي رغبة جادة - حتى الآن - لدى غالبية الدول العربية في تحمل الثمن السياسي والمادي لتغيير النظام في سوريا.

لهذا، فإن الموقف السعودي بدا استثناء شجاعا في التحذير من التغطية على نظام الأسد، أو شراء الوقت لقمع المعارضة بالقوة. يقول وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل: «الوضع لا يمكن أن يستمر، ونحن لن نقبل بأي حال من الأحوال، أن نكون شهود زور، أو أن يستخدمنا أحد لتبرير الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري الشقيق، أو للتغطية والتستر عليها»، ولكن من هم شهود الزور ومبررو الجريمة؟ هناك إحساس متعاظم بأن الدور الذي يقوم به كل من السيد نبيل العربي والفريق محمد الدابي، لا يصب في صالح حل الأزمة السورية، بقدر ما يبحث عن المبررات والذرائع للحيلولة دون قرار من شأنه إعطاء الشرعية - أو الغطاء العربي - لتدخل عسكري ضروري.

لقد تحدث السيد العربي عن تقدم جزئي، وحذر في مؤتمره الصحافي الأخير من تشبيه أسد سوريا بقذافي ليبيا، بدعوى أن الأخير هدد بتدمير مدينة كاملة بالطائرات، ولكن العربي لا يعلق على هجوم الأسد على الدول الخليجية واتهامها بالتآمر، ويتجاهل مطلب المعارضة السورية في الداخل والخارج، حول ضرورة رحيل حكومة الأسد فورا ولو بالتدخل العسكري الأجنبي.

لا شك أن بقاء نظام الأسد - كما كان وجوده - مشكلة كبرى لأمن المنطقة، ولكن لا بد من الإقرار أيضا بأن هناك بعدا طائفيا للمسألة السورية، ينبغي التعاطي معه بجدية من قبل المعارضة السورية والدول العربية الساعية لإجبار الأسد على الرحيل. إن عدم مواجهة مخاوف العلويين والأقليات الأخرى سيجعلهم يواصلون الوقوف إلى جانب النظام، لأن البديل هو استبداد سني يخشون حلوله، إن لم يتم ضمان حقوقهم في مرحلة ما بعد الأسد. هم - أي العلويين والأقليات - يخشون مصيرا مماثلا لنظرائهم في العراق، وهو أمر طبيعي لأجل عقود من حكم الحزب والعائلة. هناك – بالطبع - من يفترض أن بوسع السوريين تجاوز ذلك، عبر توافق وطني أو حكومة ائتلاف فور سقوط النظام، ولكن تلك التمنيات شيء، وواقع الحرب الطائفية التي تدور رحاها الآن، شيء آخر.

إذا كانت دول الخليج والجامعة العربية جادتين في رحيل الأسد، فعليهما استصدار قرار يشرع لحظر الطيران، وفرض مناطق آمنة للمدنيين - كما كان قرار مجلس الأمن رقم 1973 الخاص بليبيا - ومن ثم التصدي لمناقشة المرحلة الانتقالية وبالذات المسألة الطائفية. هناك حاجة ماسة لإقناع المعارضة السورية في الداخل والخارج بأن ضمان حقوق العلويين والأقليات، والتعهد بعدم ملاحقة كل من انتمى لحزب البعث، هو السبيل الوحيد لتجنيب سوريا من أن تتحول إلى نزاع أهلي دائم.

من المؤلم حقا أن ترى مراتع الصبا والذكريات الجميلة تتحول إلى ساحة معركة، وأن ترى ذات الحقول والنواعير الرحبة يملؤها الخوف ورائحة البارود، ولكن العزاء هو أن يتمكن السوريون من تجاوز تركة الماضي السيئة، والتأسيس لمستقبل مدني ديمقراطي بعيد عن لغة السلاح والطائفية. الطريقة التي سيرحل بها الرئيس بشار ليست مهمة، بل المهم هو مستقبل التوافق الطائفي بعد زوال نظامه.