في انتظار المساومة بين بوتين وأوباما

TT

«ما عادت خارطة العالم تعنيني»! لكي تعرف ماذا يجري في ملعب السياسة، عليك أن تعرف ماذا يجري في ملعب الرياضة. ركزت اهتمامي على المباراة بين كاترينا شرابوفا وسرينا وليامز. أخيرا، بطحت الروسية الشقراء الأميركية السوداء. انسحبت سرينا من الملاعب مصابة في نقطة الضعف: كعب أخيل.

هل يبطح بوتين منافسه الأميركي أوباما؟ ظلت أميركا تبطح دول العالم، منذ أن أنهى المتمرد يلتسين إمبراطورية زعيمه غورباتشيف الممتدة من موسكو إلى جدار برلين. اكتشف بوتين نقطة ضعف أوباما. فكلما اقترب موعد «غزوة الصناديق» في أميركا، ازداد أوباما حمائمية وضعفا. انسحب من العراق. تقبل قنبلة إيران. صالح أوروبا. غازل كوريا الشمالية. تعهد بالانسحاب من أفغانستان. كف عن مطالبة نتنياهو بوقف الاستيطان. فشل أمام «الفيتو» الصيني والروسي في مجلس الأمن.

عثر بوتين في بشار على «كعب أخيل» العرب. حول الأب سورية إلى لاعب. فأعادها الابن إلى أداة رخيصة في اللعبة. هو الآخر ما عادت خارطة العالم تعنيه. المهم لديه استعادة الزبداني المحررة. واجتياح حماه المتمردة. وارتكاب المجازر في حمص. وقصف العشائر العربية في دير الزور.

ما زلت عند رأيي في استحالة نشوب حرب طائفية في سورية. انسحبت أسر الأقلية العلوية من دمشق. حمص. ريف حماه، إلى «وطنها» الأصلي في الجبال الساحلية. مجزرة الأطفال في حمص ستسرع في انشقاق عشرات ألوف المجندين السنّة. لن يبقى رديفا لجيش النظام سوى شبيحة ماهر وبشار. سوى تصفية بالدماء مع السوريين، قبل الفرار إلى مغاور جبال اللاذقية.

أنهت الحرب بين النظام والشعب إمكانية التسوية في سورية. لا الحوار. لا الإصلاح. لا بشار. لا الشرع. ولا حتى بخيتان وعجوز الحزب عبد الله الأحر... كل ذلك لم يعد مجديا. نزاع معارضة الخارج مع الداخل يطيل أمد المواجهة. وينهي سلمية الانتفاضة. غدا، حملة السلاح من الإخوان والمتزمتين سيزعجون أصحاب منابر الكلام. هم أيضا باتوا، مع الأسف، أدوات في اللعبة.

ما الحل؟ لا حل في مجلس الأمن، من دون تسوية تحت الطاولة، بين بوتين وأوباما. ليس بشار وحده أداة المساومة. فهي أكبر منه. وأطول. وأكثر تعقيدا بكثير. لكي يتنازل بوتين عن البيدق، فالمطلوب أن يسحب أوباما بساط الناتو الذي دفعه كلينتون وبوش إلى حدود روسيا. وأن تكف أميركا عن قصقصة نفوذ روسيا في دول آسيا الوسطى. وعن شم غاز تلك الدول وشرب نفطها اللذين كانا حكرا لموسكو. وأن تسحب صواريخ باتريوت من تشيكيا وتركيا. وأن تضمن أميركا بقاء طرطوس السورية قاعدة دائمة للأسطول الروسي في المتوسط.

إذا كان بوتين أجلس بشار على قدميه الطويلتين، فهل اكتشف المشير طنطاوي أيضا القيصر الروسي، نكاية بأوباما؟ المجلس العسكري يتستر على الأزمة اللاهبة بينه وبين أميركا. لعل عسكر مصر يستشعرون هزالة موقف أوباما، ليعاودوا الحوار مع بوتين بالروسية التي تعلموها يوما في الأكاديميات الروسية العسكرية.

أكتب هذه الكلمات، ولا أدري ما إذا كان المجلس العسكري أمر بالإفراج، أو سيفرج عن المتهمين بتمويل الانتفاضة الشبابية الأميركيين (بينهم سام لحود نجل راي لحود وزير النقل الأميركي ذي الأصل اللبناني). انحياز المجلس العسكري إلى الإخوان، بعدما يئس من استمالة وإرضاء الشباب، دفعه إلى اقتحام مقارّ ومكاتب التمويل الأميركية، بحثا عن المال السياسي، فيما لم يبحث العسكر، عن شيء ما في جيوب القوى الدينية.

فضح المجلس العسكري الشباب أمام الشعب. على قدر المهانة، علا صراخ الشباب مع إدارة أوباما. في الاحتفال بذكرى الانتفاضة. احتفظ ميدان التحرير بسلمية الذكرى. لكن انفجرت هستيريا المطالبة الأميركية والشبابية بانسحاب المجلس العسكري من السلطة. القاموس الشبابي والصحافي وصل بلغة الحوار إلى حد الابتذال.

أخطأ الجميع الاستدلال ببوصلة الطريق. كان على الشباب التحالف مع العسكر ضد الإخوان الذين خطفوا الانتفاضة. جاء تحالف الإخوان مع الليبراليين، بدلا من التحالف مع السلفيين. لا أحد يدري ما إذا كان الوفاق العسكري - الإخواني سيتجاوز إشكالية سن الدستور. وانتخاب رئيس جديد، أم أن الفراق سيحدث هناك.

على أية حال، احتفظ العسكر بورقة قوية. رتبوا انتخاب الرئيس، بعد وضع الدستور، وانتخاب مجلس الشورى (الذي لا لزوم له. لأنه يعرقل سرعة تشريع القوانين). تأدب الإخوان والسلفيون في انتظار تسلم السلطة من العسكر. لوح الإخوان برئيس وفاقي، غير إخواني. لإرضاء المجلس العسكري. بل أجّلوا الحديث عن تشكيل الحكومة.

في مكر الدهاء الإخواني، يصعد سعد الكتاتني سدة البرلمان. يشكر المجلس العسكري الذي وفر النجاح لغزوة الصناديق. ثم تعهد بمواصلة «مسيرة الثورة»! ثورة من؟ «الثورة» التي لا يد للإخوان في صنعها.

في ميدان «الوغى»، المشهد في غاية الطرافة، نزل الإخوان صامتين. أجهضوا محاولة «الفلول» الشبابية إحياء الانتفاضة، وتحويلها إلى ثورة تشنق مبارك. تنحي المشير ومجلسه عن السلطة. غاب العسكر وقوات الأمن، فيما تولى السلفيون مساعدة الإخوان في إسكات الشباب، وحماية المباني العامة.

هل هناك حياة لبرلمان الإخوان بعد انتخاب رئيس للجمهورية؟ «خبثاء» الفقه الدستوري ينصحون بحل البرلمان، باعتباره مجلسا تأسيسيا مهمته وضع الدستور. محمد بديع شيخ مشايخ مكتب الإرشاد يدعو الله أن يطيل أيام «عواجيز» الإخوان وحياة البرلمان، لتكتحل عيونهم بحكومة يرأسها خيرت الشاطر وكيل الشيخ بديع على الأرض.

للإخوان مع البرلمان المصري ذكريات. أود أن أذكرهم بواحدة منها: في بهوه الفرعوني، اغتال الشاب الإخواني محمود العيسوي (1945) أحمد ماهر رئيس وزراء مصر آنذاك. كانت جريمة الباشا إعلانه الحرب رمزيا على دول المحور الفاشي، ليضمن مقعدا لمصر في الأمم المتحدة. لكن من يضمن اليوم تعويض اقتصاد مصر المنهار مع فوضى الانتفاضة؟

حكومة كمال الجنزوري عادت إلى مفاوضة المصرف الدولي (الذي تتحكم به أميركا)، من أجل حفنة من الدولارات بشروط قاسية، في مقدمتها ضمان دولة الإخوان المقبلة الالتزام بصلح الكامب مع إسرائيل. والالتزام بالتناوب على السلطة، بعد كل غزوة صناديق (ديمقراطية الاقتراع).

ليس في الإمكان «أبدع» مما كان. صاح إخوان البرلمان والميدان: حي على الصلاة. والإنتاج. والبناء. ينسى الشيخ محمد بديع استنهاض همة الرأسمالية الإخوانية البازارية (تنام على جانب كبير من ثروة مصر حققتها مع رأسمالية مبارك)، للمشاركة في تعويم اقتصاد دولة إخوانستان. فعلت ذلك الرأسمالية البازارية الإيرانية عندما مول تجار البازار دولة الملالي المنبعثة من تابوت التاريخ.

لست ضد ديمقراطية الإخوان. إنما في حب مصر، أكتفي بكلمة هامسة: لا استقرار لدولة ديمقراطية حديثة في حضن سلطنتين. سلطنة أمنية وإرشادية إخوانية. وسلطنة عسكرية مستقلة ذاتيا، عن كل رقابة. ومحاسبة. لا استقرار لحياة نيابية تحت قبة برلمان غير متوازن. برلمان أقصي الشباب عنه، لتفترش 75 بالمائة من مقاعده كتل دينية. بلا تجربة. بلا منهج. لا دور عربيا وحضاريا لمصر، إذا تم تغريب أمتها العربية، عن إشعاع الطبقة المصرية المثقفة الواعية، والاستمرار في احتكار عقل وفكر الكتلة المصرية الإيمانية الضخمة.