مداعبات «الولد الشقي»

TT

أفتقد هذه الأيام وبشدة عمنا الكاتب الساخر والإنسان الجميل محمود السعدني. محمود السعدني، جزء هام من حياة كل من عاصره من تلاميذ، ورفاق، وأصدقاء، وحواريين. مجلس محمود السعدني، هو بالتأكيد أجمل مجالس العرب، تضحك، تضحك، تضحك حتى تستلقي فيه على قفاك من فرط الضحك! كم من المرات دمعت عيناي من فرط الضحك على قصص ومقالب وروايات العم محمود. كنت أراه في لندن، أكثر من القاهرة. شهدت بناية ستيوارت تاور الشهيرة بمنطقة ميدافيل، حيث توجد شقة العم محمود الصغيرة حوارات ومسامرات ضمت نخبة النخب في عالمنا العربي. هذا الطيب صالح، وهذا محمود درويش، وهذا أحمد عباس صالح، وأمين القفاري، والحاج إبراهيم نافع التاجر الشهير ورفيق عمر العم محمود، وأيضا كان الصديق عادل درويش، والصديق عاصم حنفي والمفكر الرائع ألفريد فرج. في تلك الشقة، ذلك المربع الصغير، اجتمعت تلك العقول المضيئة والقلوب الطيبة والتفت حول العم محمود بوصفه إنسانا رائعا وصديقا وفيا. كان السعدني، إذا أحبك، يحتلك، بمعنى احتلال كافة مشاعرك، وأيضا يحتل كل مساحات أوقاتك. وأذكر أنني حين كنت أعمل في لندن، لم أعرف طعم النوم الكامل طوال فترة وجود العم محمود في البلاد! كنت أزوره في المساء، وحينما ينتصف الليل أحاول الاستئذان حتى أنام كي أستيقظ مبكرا لبدء يوم عمل طويل وشاق، إلا أن العم محمود كان يسألني كل يوم نفس السؤال: انت رايح فين؟

كنت أرد: رايح انام يا عم محمود. - ليه؟ فيه حد ينام دلوقتي؟!

- عندي شغل يا عمنا. - ليه انت بتشتغل إيه؟

- أنا رئيس تحرير يا عم محمود. - وهو فيه رئيس تحرير ينام دلوقتي؟!

وفي الساعة الثانية أحصل على ترخيص مغادرة إلى المنزل. وما هي إلا ثلاث ساعات من النوم حتى يدق جرس الهاتف في غرفة نومي فأرد في تعب شديد:

- ألو.. أيوه يا عم محمود.. - أيوه.. انت بتعمل إيه؟

- أنا نايم يا عم محمود!

- فيه حد ينام دلوقتي؟! يللا انزل هات لنا فول وفلافل من عند «مروش».. ومتنساش الطرشي! أقف تحت مياه الدش الباردة حتى أفيق، وأذهب إلى شارع إدجوار أشتري علبة فول وكيس فلافل وبعضا من «الطرشي» (المخلل). يقوم العم إبراهيم نافع بطهي الفول في الطاجن الشهير مضيفا إليه نصف طن من الفلفل الأسود! آكل بالأمر حتى أصاب بحموضة أسطورية ورغبة في الانتحار! أحاول الانصراف لأذهب إلى مكتبي، ولكن العم محمود يكرر الحوار اليومي المعتاد: «رايح فين»؟ أرد: المكتب يا عم محمود!

يتساءل ساخرا: ليه يا سيدي؟ - علشان اشتغل يا عمنا.

- ليه انت بتشتغل إيه؟ - أنا باشتغل رئيس تحرير يا عم محمود.

- لا.. لا.. لا خليك قاعد، فيه رئيس تحرير يروح مكتبه دلوقتي!

هذا الحوار تكرر بالنص صباح مساء بنفس الترتيب لسنوات مع العم محمود!!

رحمة الله على أستاذنا الساخر الجميل. وحشتني!