رصيد حماس في خطر؟!

TT

كانت لحظة سينمائية أقرب إلى أفلام الدراما تلك التي زار فيها الرئيس الراحل ياسر عرفات العمارة السكنية التي كنا نقطنها في حي الرويس - أحد أعرق الأحياء الشعبية - بجدة، كنت حينها في المرحلة المتوسطة أواخر الثمانينيات. أن ترى شخصا نجم الشاشة السياسية في نظرك كمراهق شيء؛ وأن يكون ذلك الشخص بحجم «أبو عمّار» في بزته العسكرية وشماغه الفلسطيني شيء آخر.. جاء وزار بكل تواضع عائلة فلسطينية استشهد أحد أفرادها؛ لكنني لم أكترث بذلك كله إذ كنت كما هو الحال لدى كل من نشأ في محاضن الحركة الإسلامية لا أعرف إلا حركة حماس باعتبارها الممثل الأمين والحصري للمقاومة.

استرجع خيط الذكريات، وصورة حماس في وجداننا غير المسيس، والتي تقترب إلى حدود الأيقونة آنذاك؛ وأنا أتابع إحدى أصعب اللحظات التي تمر بها الحركة اليوم؛ بل لعلها لم تعش حالة من الارتباك السياسي والتوهان؛ كالتي تمرّ بها في هذه اللحظة الحاسمة؛ حيث تبدو مستسلمة لقدرها السياسي أكثر من كونها مختارة له.

يمكن القول إن حركة حماس ومنذ البدء حصلت على تعاطف ونصرة ودعم بل وتأييد مطلق يكاد يمسّ حدود التقديس لكن هذا الرصيد الضخم من الولاء المعنوي معرض للنفاد والانتهاء بسبب الموقف السلبي تجاه ما يحصل في سوريا؛ لأسباب تتعلق بالرهان الخطأ من الجماعة على الهلال الإيراني.

انضواء حماس تحت راية ما سمي بجبهة الممانعة والتي ضمت دولا وأحزابا وجماعات وحتى تيارات صغيرة داخل بيت الإسلام السياسي الكبير كان متعدد الاستخدامات؛ فهو ورقة ضغط سياسية في الداخل الفلسطيني تجاه حركة فتح التي رغم أخطائها لم تكن هي وحركات لا تتفق وأيديولوجية حماس معزولة عن توترات الصراع مع إسرائيل في صعودها وهبوطها بين خيارات المقاومة المسلحة والرهان على المفاوضات ولاحقا طالت يد الممانعة تيارات إسلامية غير مسيسة كالتيار السلفي العريض ليبدأ رصيد حماس في النقصان والذي لم يكن مشحونا إلا بالتعبئة وشعارات الهوية والمقاومة المسلحة وهي شعارات ترفعها كل التيارات مستبدلة أولوياتها في المواجهة وفق أجندتها السياسية المرحلية، وهو بالمناسبة ما كانت تفعله حماس ذاتها حين وقفت أكثر من مرة في وجه حركة الجهاد الإسلامي أو التيار السلفي بحجة ما تقتضيه المصلحة الشرعية وهي مرادف مفخخ للبراغماتية السياسية ولكن بلغة دينية يمكن ابتلاعها من قبل الجماهير.

ومع كل الإيجابيات التي استطاعت حركة حماس تحقيقها رغم الضغوط والحصار والاستقطاب السياسي الشديد في مرحلة ما قبل الانتقال إلى «الهلال الشيعي» كعقاب للدول التي دعمت أو وقفت على الحياد في خصومتها مع فتح؛ فإن الحقيقة تقول إن تحميل عبء هذا التحول والانحياز لحماس كحركة مقاومة معزولة عن رأي الجماعة الأم الإخوان المسلمين ظلم لحماس، وهذا ما يحاول الترويج له عدد من الإخوان بالتبني وهم قطاع واسع ومزيج من المتعاطفين مع الإخوان في مرحلة ما بعد الثورات وبداية تكون الهلال الإخواني أو السني كما يقال في مقابل الشيعي الإيراني؛ إلا أن هذا لا تدعمه لا شواهد تاريخ موقف الجماعة من الثورة الإيرانية استلهاما ودعما وتأييدا، ولا موقفها المتأخر الذي عبر عنه عدد من قياداتها وعلى رأسهم المرشد حول الموقف من التصعيد الإيراني في المنطقة؛ وضرورة الاصطفاف حول معسكر الممانعة ما دام أنه يواجه الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل.

الموقف الإخواني في استخدام خيار دعم المقاومة بالمطلق هو ذات الموقف القومي واليساري وحتى موقف حزب الله ولكن بتفاصيل مغايرة يجمعها هدف الضغط على الداخل من خلال ترحيل الأزمات مع السلطات والأنظمة الحاكمة حين كان الجميع في ضفة المعارضة إلى القضية الفلسطينية.

وحتى موقف حماس الذي ذهب بعيدا في الثورة السورية حين بدا مضطربا ما بين السكوت على الجرائم البشعة للنظام السوري بحجة أنها أزمة داخلية وصولا للتدخل كوسيط وانتهاء بالاستعداد لمرحلة ما بعد النظام؛ لم يكن هذا الموقف بعيدا عن سكوت الجماعة التي تحولت منذ سقوط الأنظمة إلى سلطة على الأرض بحكم حجمها وثقلها؛ قبل أن تتحول إلى سلطة بحكم صناديق الاقتراع حيث لم يصدر أي بيان إدانة صريح وواضح من الجماعة لما يحدث في سوريا.

ورطة حماس تتفاقم فالولايات المتحدة دخلت مع الجماعة في مفاوضات أقرب إلى المغازلة السياسية، حيث التطمينات وتقديم مواقف مباينة وصلت إلى أن يصرح زعيم حزب النهضة الشيخ راشد الغنوشي؛ والذي أطلق صيحات النذير إلى الملكيات؛ لكنه مع أول سؤال عن القضية الفلسطينية قال إنها شأن الفلسطينيين بالدرجة الأولى، وإن الحزب مشغول بأولوياته السياسية، وليس بعيدا تلك التطمينات التي أطلقتها جماعة الإخوان تجاه اتفاقية كامب ديفيد والحفاظ عليها.

الأكيد أن ما سبق ليس إدانة للإخوان، فمن الطبيعي أن اللعبة السياسية تفرض إيقاعاتها المختلفة؛ فاللاعبون في مضمار السلطة ليسوا كالمتفرجين في مقاعد المعارضة؛ لكن هذا التحول في الخطاب السياسي ألقى بحمولات ثقيلة جدا على حركات المقاومة وعلى رأسها حماس؛ ذلك أن رأسمالها السياسي مبني على تحويل المقاومة من خيار استراتيجي للمواجهة إلى نزعة هويّة ذاتية لا يمكن الانفكاك عنها؛ فحماس المقاومة، والمقاومة حماس.

ومن جهة ثانية فإن موقف الإخوان الآن ليس واضحا تجاه التصعيد الإيراني ومستقبل العلاقات مع دول المنطقة؛ إلا أن بوادر كثيرة تبعث على القلق تجاه إمكانية أن تجابه الجماعة تنافسها الشديد مع التيارات السلفية، والمرشح للتحول إلى صراع على الشرعية الدينية؛ وبالتالي السياسية باستخدام ورقة التحالف مع إيران، الأمر الذي في اعتقادي سيعزز من حالة الانقسام والارتباك داخل إخوان الخارج كما يطلق على فروع الجماعة خارج مصر، كما حدث سابقا إبان موقف الجماعة من أزمة الخليج.

خطأ الإخوان الاستراتيجي المحتمل هو بالتالي سينقص كثيرا من رصيد الجماعة في الشارع المتعاطف معهم باعتبارهم ضحية الأنظمة السابقة طيلة العقود الماضية؛ وباعتبار أن بناء خطاب الجماعة على مركزية المرجعية الإسلامية هو ما يتفق عليه عامة الناس في البلدان الإسلامية، وبالتالي فإن أي اختلال في الخطاب المكوّن لصورة الإخوان لدى الشارع؛ سينعكس سلبا على الجماعة.

في آخر استطلاعات «غالوب» لا يتجاوز مجموع تأييد الإخوان والسلفيين 27 في المائة؛ بينما يصل من يؤيد وجود مرجعية دينية للدولة المصرية إلى 72 في المائة في حين أن أغلبية الشعب المصري كما في ذات الاستطلاع ضد تشكيل حكومة تقوم على أسس دينية، الاستطلاع بغض النظر عن دقته أو طريقة قياسه، لم يكن إلا شارحا لحالة الالتباس في تقاطع السياسي بالديني في مصر وتبعا في البلدان الإسلامية والعربية؛ حيث العاطفة الدينية المتصاعدة ليست دليلا على تبني أيديولوجية الإسلام السياسي.

هذا الفرق بين إسلام الهوية والإسلام السياسي هو ما يجب أن تتعلم منه الجماعة الأم وأبناؤها؛ لأن حالة الترقي السياسي باتجاه السلطة ستنتج مواقف وتحالفات تسحب من رصيد الهوية على حساب فاتورة الموقف السياسي، ومن جهة ثانية فإن وجود خطابات سلفية وصوفية دخلت عالم السياسة، قد يهدد رصيد الهوية أيضا، فالسلفيون والصوفيون كانت السياسة بالنسبة لهم من اللامفكّر فيه بحكم مركزية خطاب «التصفية والتربية» لدى السلفيين، وخطاب «إصلاح النفس أولا» عند المتصوفة.

هل ستعود حماس لخطاب الأم الذي يتجه نحو البراغماتية السياسية؛ أو تراهن على خطاب «الممانعة» بشكل مطلق وبالتالي دخول دوامة جديدة.. الأيام حبلى كما يقال.

في آخر لقاء بين محمد بديع مرشد الجماعة وإسماعيل هنية وصف المرشد حركة حماس بقوله «إنها نموذج مثير للإعجاب»، وأعتقد أن الإعجاب ربما تحول إلى انبهار بقدرة الحركة على المشي على الحبل السياسي بأناقة بحيث يرافق خالد مشعل ولي عهد قطر إلى الأردن ويعلن من هناك حرصه على مصلحة الأردن؛ بينما يذهب إسماعيل هنية إلى طهران.

[email protected]