لبنان يفقد ختام الذهب

TT

عرف لبنان المعاصر سياسيين كانوا أرفع من السياسة، وأعلى بكثير من السياسيين، وأنصع بكثير من الممارسات السياسية. كانوا قلائل. وفي غياب نسيب لحود أصبحوا ظاهرة منقرضة، يعثر عليها في كتب التاريخ ومضارب الأمثال. عندما عاد نسيب لحود إلى لبنان أوائل التسعينات ليخوض العمل السياسي، نائبا، ثم مرشحا لرئاسة الجمهورية، كان أحد كبار الأثرياء. لكنه نذر ألا يمارس أي عمل مالي في البلد. أي عمل. أي شبهة مالية. أي علاقة لها علاقة بالمال والفساد ويوميات اللبنانيين من غش وسمسرة وبيع وشراء.

كانت له مناعة فائقة في تحصين نفسه بخلقه الوطني. لا أغراه فوز ولا أوهنته هزيمة. لا اعتدى على أحد ولا هاب شيئا. أو أحدا. عاش في قلب لبنان وبعيدا عن ضعف اللبنانيين وعاداتهم الرديئة في تفضيل البقائيات الصغيرة والعابرة على أسس البقاء الوطني القائم على العدل والنزاهة ورفع الرأس.

خذلوه في انتخابات الرئاسة لأن هذا ليس من شأنهم. ولكن خذله أهل المتن في الانتخابات النيابية وهم يعرفون تماما أنهم يخونون ضمائرهم ويخذلون لبنان. كان ذلك عصر «التيار الوطني الحر» الذي جرف، في نزقه وابتهاجه بحاله، عددا من الأخلاقيين، وفي طليعتهم هذا الرجل، الذي رفض أن يكون شيئا في قائمة أو شيئا على قائمة انتخابية.

لم يحرم ناخبو «التيار الوطني الحر» لبنان السياسي من نسيب لحود، لأن حضوره ظل أقوى من كل المقاعد والمجالس. وأخذوا لأنفسهم أكثرية من 128 نائبا، لكن لعلهم اليوم يدركون (ناخبو التيار الوطني الحرّ) أن بين 128 نائبا لم يكن هناك نسيب لحود، يزيد وجوده من احترام النيابة، ويعزز حضوره الثقة بأن السياسة قد تهتدي ذات يوم إلى الصدق والكرامة.

في بلد غير لبنان، وشعب غير هذا الشعب المأزوم، المصاب بفقدان الذاكرة، لا يقبل حزب ولا فرد أن يخوض معركة ضد الذين مثل نسيب لحود. يجتمع المشتهون والطامعون والطامحون ويقولون في بيان مقتضب: الربح على أمثال نسيب لحود خسارة وطنية لا تغتفر ولا تعوض.

لكن هذا ليس عصر مثل هذه المواقف. هذا عصر لفه تحت إبطه نسيب لحود ومضى، شامخ القامة، رافع الرأس، عالي الضمير. سوف يتذكرونه في كتب التاريخ، رجلا بلا ظلال مريبة، بلا صفقات، بلا مقاتل، بلا قصف، بلا مؤامرات، بلا خيبات، بلا تبدلات، وذا لون واحد. لون الكرامة الشخصية والوطنية.

في صداقاته وموداته الشخصية، كان نسيب لحود مثلا في الحياة العامة. جمعتني به 43 عاما من الألفة والإعجاب والتقدير. ونقلنا هذه العلاقة إلى أولادنا. وجميعنا حزانى لغيابه أكثر مما يمكن له أن يقدر.