انعدام التهذيب كسلاح دمار شامل في بورسعيد

TT

«إنك لن تستطيع أن تمنع طيور الأحزان من أن تطير فوق رأسك، غير أنك تستطيع أن تمنعها من أن تعشش فوقه» مثل صيني قديم، ولكن يبدو أن أسراب طيور الأحزان في هذا الزمن أقوى من أن أطردها بعيدا. هي قادرة على النفاذ إلى عقلك وقلبك لتبني فيهما أعشاشا يعلم الله متى وكيف تتخلص منها.

عدة آلاف من صغار الشبان من القاهريين عشاق النادي الأهلي، ذهبوا إلى بورسعيد وراء ناديهم بحثا عن نصيبهم من البهجة في زمن عزّت فيه البهجة. ثم عادوا بعد المباراة يحملون جثث أربع وسبعين من زملائهم ومئات الجرحى، كما حملوا أيضا عند عودتهم كل طيور الأحزان التي تصادف عبورها سماء مصر، فنزلت على رؤوس المصريين جميعا وقلوبهم لتبني فيها أعشاشا.

وكل مصري هذه الأيام، أو لكي أكون دقيقا، كل من هو مهتم بالعمل العام، يحمل فوق ظهره حقيبة كبيرة امتلأت بالشتائم وعرائض الاتهام الجاهزة التي ينقصها فقط أن يسجل فيها اسم المتهم، والعقوبة المطلوبة له، بعدها يخرج إلى الشارع شاتما هؤلاء الذين لم ينفذوا العقوبة المطلوبة والتي لن ينصلح حال مصر بغيرها وفي الشارع سيلتقي بأحد مندوبي الفضائيات الذي سيدعوه هو وحقيبته إلى برنامج تلفزيوني ليشرح قانون العقوبات الجديد الذي يدعو الناس لتنفيذه والذي يتصاعد إلى المشنقة في الميدان أو الجيلوتين الفرنسية الشهيرة.

لم يعد لأحد أو لشيء أهمية وأنت قوي فقط عندما تكون شتائمك أكثر قوة وتأثيرا، المطلوب الآن ليس أن تنتصر على أعدائك بل أن تشعرهم بالألم. وهنا يحدث الخلط المتعمد في أحيان كثيرة بين الثوار وبين الغوغاء، لقد شاهد الناس في مشارق الأرض ومغاربها حشدا من البشر يشتمون جنود الجيش المصري الواقفين لحراسة مبنى التلفزيون بشتائم تصيبك بالذهول والضياع، حتى وأنت تشاهد ما يحدث بعد إغلاق الصوت اكتفاء بالصورة. الحشد هنا له وعي واحد، هو يطلب مصيبة، يطلب حدوث الكارثة.

وجماهير مشجعي النادي الأهلي ليسوا معزولين عن حركة الإعلام وحركة الشارع، هم أيضا ذهبوا إلى بورسعيد يحملون إلى جانب حقيبة التشجيع، حقائب أخرى امتلأت بالإهانات. أتوقف هنا لأقول، لست أتهم أحدا بعينه ولا جماهير بعينها، فليست لي صلة بكرة القدم ولا بنواديها من قريب أو بعيد، كما أنني لا أدافع بالطبع عن مشجعي النادي المصري في بورسعيد، فلم أصل بعد إلى الدرك الأسفل الذي أدافع فيه عن بعض القتلة من بينهم. أنا فقط - حتى الآن - أستمتع بحرية أن أقول رأيي فيما يحدث، لست مدعيا عاما لأتهم ، ولست محاميا لأترافع عن أحد، كما أني لست قاضيا لأفصل في قضية لست مؤهلا للفصل فيها.

ولأنني أعمل في صناعة الكلمات، لذلك أنا أدرك كيف يمكن للكلمات أن تجلب الخير، وكيف يمكن أن تتحول لسلاح دمار شامل، هناك لافتة رفعها مشجعو الأهلي أرى أنها قدحت زناد المذبحة، وهو ما نسميه (triggering) وهي اللافتة التي كتب عليها «بلد البالة.. ما تجيبش رجالة» البالة لمن لا يعرفونها، هي ذلك الطرد الكبير الذي يحوي ملابس قديمة أو انتهى طرازها، وهي مهنة شهيرة في بورسعيد، شهيرة غير أنها ليست مدعاة للفخر بالطبع في مدينة دخلت التاريخ بوصفها المدينة الباسلة التي تصدت لمقاومة قوات الاحتلال الإنجليزية في بداية خمسينات القرن الماضي، كما أنها تصدت للعدوان الثلاثي عام 1956، ثم دفع أهلها جميعا الثمن غاليا في حرب 1967 عندما حدثت لهم عملية تهجير جماعية هم وبقية مدن القنال، فعاشوا في المباني الحكومية في المدن القريبة والمدارس وعشش رأس البر، وكانت حياتهم وقت التهجير مصدرا لحكايات لا أحد يريد أن يتذكرها، كانت الأسرة بأكملها تعيش في غرفة واحدة. وبعد حرب 1973 وبعد فض الاشتباك بين القوات الإسرائيلية والمصرية، بدأ أهل مدن القناة يعودون إلى بيوتهم. ولما كانت القناة، المصدر الرئيسي لأرزاقهم، معطلة، كان من السهل عليك أن تدرك حجم المعاناة في حياتهم وحجم الثمن الذي دفعوه بسبب قربهم من خطوط القتال، وبعد إعلان بورسعيد منطقة حرة بدأت البلدة تنتعش اقتصاديا، غير أن الحرف فيها أخذت في الاندثار وهو بالطبع ما لا يشعر مواطنيها بالزهو. أنا فقط أريدك أن تتخيل حجم الإهانة التي وجهت إليهم وهي أن بلدهم عاجزة عن صنع الرجال.

لست أبرر، أنا فقط أحاول فهم ما حدث، في كل حشد هناك غوغاء وهناك بلطجية امتلأوا بالرغبة في العدوان، هؤلاء سينتظرون فقط أي فرصة آمنة لقتل الآخرين في جو يشيع فيه الغضب عند المتفرجين الذين اتهموا بأنهم ليسوا رجالا.

الجريمة في مصر الآن تتسم بقدر من الوضاعة لم نعرفها من قبل، ثلاثة رجال يحاولون سرقة سيارة سيدة في طريق الإسماعيلية، تتمكن السيدة من الإفلات منهم، فيطلقون عليها النار من مدافعهم الرشاشة، غير أن السيدة نجت لحسن حظها، لم يحدث من قبل أن سمعنا أن مجرما أطلق النار على امرأة. وتكرر الحادث في مدينة 6 أكتوبر، سيارة تقودها سيدة، أوقفها ثلاثة من الأشقياء، غير أنها تمكنت أيضا من الإفلات فأطلقوا عليها النار من بنادقهم الآلية فأصيبت، غير أنها نجت من الموت بعد أن انتقلت بسرعة إلى المستشفى وإجراء اللازم لها. الوضاعة والانحطاط هما ما تتسم بهما الجريمة في مصر الآن.

من تحرياتي الخاصة، وسؤالي لبعض من حضروا المباراة، كان التشجيع طوال المباراة ساخنا، غير أنه كان عاديا في نهاية الأمر، على الرغم من إلقاء بعض الشماريخ المشتعلة والطوب، ثم ارتفعت اللافتة إياها، يقول شاهد عيان إن اللافتة ارتفعت لمدة دقيقة واحدة ثم أنزلوها، بعد ذلك وقبل ربع ساعة من نهاية المباراة، ارتفعت مرة أخرى وظلت في مكانها، واستخدمت الجملة المكتوبة عليها في الهتافات. ربما لكي يتمكن هؤلاء الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، من استيعاب التهمة الموجهة لهم وهي أنهم ليسوا رجالا.

عدم استيعاب فكرة أن بيننا قتلة ومجرمين، ينتج عنه يقين ثابت بأن الآخرين هم من يفعل بنا كل كوارثنا ومصائبنا، هكذا نفتح حقيبة الاتهامات ونخرج منها كل أنواع الاتهامات، أميركا وإسرائيل ثم الفلول من أعضاء النظام السابق، ثم المجلس العسكري. وبعد استعراض وجوه كل المتهمين في قفص الاتهام، نصل إلى مصدر الألم الأصلي والسبب في كل هذه الكوارث، أنه على المجلس العسكري أن يسلم الحكم للسلطة المدنية هنا والآن.

المطلوب طبقا لخريطة الطريق أن نتحمل وضعنا الحالي لخمسة شهور فقط، غير أن بعض الناس يفكرون في أنه من المحتم أن يتصل المجلس العسكري تليفونيا بجهة اسمها السلطة المدنية ويقول لها: صباح الخير يا سلطة مدنية.. ممكن من فضلك تيجي دلوقت تستلمي الحكم؟

لقد اتفق كل المسؤولين على إلغاء دوري كرة القدم.. أيها السادة، هذا خطأ سياسي، كرة القدم هي أرخص مصادر البهجة، لا ترتكبوا هذا الخطأ.. لا تزيدوا النار اشتعالا بدافع من الكسل والعجز عن تحمل المسؤولية، مسؤولية حماية الجمهور والملاعب والمباريات.