البليهي بين تقسيم المطيري والذايدي

TT

يقسم عبد الله المطيري أطوار تطور فكر إبراهيم البليهي إلى ثلاث مراحل، هي:

- مرحلة التراث الإسلامي التقليدي، ببحثه [فيه] عن السؤال النهضوي المقلق «من خلال دراسته في كلية الشريعة بالرياض اتساقا مع كونه متدينا ومن أسرة متدينة وفي وسط عام متدين».

- المرحلة الإسلامية المستنيرة: حين لم يجد عقل البليهي اليقظ (!) النهضوي (!) إجابة عن سؤاله في المرحلة السابقة، انتقل «خطوة إلى الأمام» فتعلق بكتابات المصلحين والكتابات المستنيرة عن الإسلام (الأفغاني، محمد عبده، الكواكبي، شكيب أرسلان، الندوي، محمد أسد، محمد البهي، وغيرهم). توج البليهي المرحلة الإسلامية المستنيرة ببحثه الجامعي عن سيد قطب.

- مرحلة الانفتاح على الفكر العالمي هذا التقسيم أخذه المطيري من مشاري الذايدي وعدّل فيه. ففي لقاء أجراه الذايدي مع إبراهيم البليهي، (نشر في جريدة «الشرق الأوسط» سنة 2003 وكان اللقاء ضمن اللقاءات التي ضمها الكتاب) وضعه في السؤال الأول الذي وجهه إليه ضمن مراحل ثلاث هي: مرحلة سيد قطب التي اعتبرها مرحلة منفصلة عمّا لحقها. مرحلة الانشغال التام بالعمل الوظيفي بالبلديات ممارسة وتنظيرا، وهي المرحلة التي ظهر فيها ثلاثة كتب له عنها، وكان ختامها كتابه (النبع الذي لا ينضب). مرحلة النقد الثقافي التي كانت بدايتها كتابه (بنية التخلف) ودعوته إلى تأسيس علم الجهل ونقد التعليم التلقيني والتأكيد على ما يسميه بعبقرية الاهتمام. ثم سأله بعد هذه المقدمة: هل تمثل كل مرحلة انقطاعا عما قبلها؟

فنفى البليهي أنه مرَّ بمراحل، وأكد أنه لا توجد في حياته انقطاعات. ثم قال كلاما بما معناه إنه ما مهد قراءته كان السؤال الذي يشغله - ولا يزال - سؤالا نهضويا!! لنلحظ هنا أن الأطوار أو المراحل جعلها المطيري مثل مشاري أطوارا أو مراحل ثلاثا لكن أحدث في كل واحدة منها تعديلا ليقرر ما يزعمه البليهي من أنه ولد في المهد نهضويا! في المرحلة الأولى التي سماها مشاري مرحلة سيد قطب التي اعتبرها مرحلة منفصلة عما قبلها سماها هو مرحلة التراث الإسلامي التقليدي. وفي هذه المرحلة يفهم من السياق الذي عرضه المطيري أنه لم يكن مهتما بها لذاتها وإنما دخل فيها وهو متأبط سؤاله النهضوي للبحث عن إجابة عنه فيها. وبما أن عقله عقل يقظ تيقن أنه لن يجد مبتغاه في التراث الإسلامي التقليدي.

وفي المرحلة الثانية التي سماها مشاري مرحلة الانشغال التام بالعمل الوظيفي بالبلديات سماها هو المرحلة الإسلامية المستنيرة التي توجها ببحثه الجامعي عن سيد قطب. هذه المرحلة دخلها البليهي - وهو أيضا متأبط سؤاله النهضوي - فراح يطالع الكتابات الإسلامية المستنيرة مع تعلق بها، فحشر أسماء إسلامية إصلاحية نهضوية كالأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وشكيب أرسلان ومالك بن نبي مع أسماء إسلامية متفاوتة في درجة أصوليتها كحسن البنا والمودودي والندوي ومحمد أسد ومحمد الغزالي ومحمد البهي.

المطيري أحدث في هذه المرحلة أكثر من تعديل، الأول، أنها عند مشاري مرحلة العمل الوظيفي بالبلديات وجعلها هو مرحلة الإسلام المستنير. الثاني، أنها عند مشاري - هي والمرحلة التي تليها - منفصلة عن المرحلة الأولى، المرحلة القطبية، بينما هو مثلما أسقط سيد قطب بوصفه مرحلته الأولى، أسقطه من المرحلة الثانية فحذف اسمه من قائمة الاطلاع والتعلق في مرحلة ما سماه بالإسلام الإصلاحي والمستنير، رغم أنه عدّد أسماء لا هي إصلاحية ولا تنويرية. حذفه ليوحي أن صلته بسيد قطب صلة دراسة وبحث لا صلة متأثر به إلى حد كبير. الثالثة، أنه أسقط مرحلة الانشغال التام بالعمل الوظيفي بالبلديات وقفز على كتب ثلاثة أشار إليها مشاري كشواهد على المرحلة الثانية، من دون أن يسميها.

في المرحلة الثالثة التي سماها مشاري مرحلة النقد الثقافي سماها هو مرحلة الانفتاح على الفكر العالمي.

لنناقش تقسيم المطيري لحياة البليهي الفكرية.

مرحلة التراث الإسلامي التقليدي: يغيب عن كثيرين منا أن ليس كل عالم أو مثقف، «تراثي» أو بالتراث، هو إسلامي أو ديني، وليس كل إسلامي أو صاحب اتجاه أو نزعة دينية - بالضرورة - هو تراثي أو مطلع على التراث في شيء من جوانبه أو حتى مطلع على جانب واحد من علومه. إن المطلع على كتب ومقالات البليهي اطلاعا يسيرا يستشف أنه لم يمر بمرحلة «تراثية» وأنه غير متوفر على نحو احترافي على علم من العلوم الدينية المحضة ولا على أداة من أدواتها. ويستشف أن معرفته بالتراث الديني وغير الديني، جملة وتفصيلا، لا تتعدى حدود المعلومات العامة. والذي لديه اطلاع على الكتاب الإسلامي المعاصر وعلى كتابات الإسلاميين يتجلى له بوضوح أن تشكيله الثقافي، تشكيل إسلامي صحوي، فتسمية الذايدي لمرحلته الأولى بمرحلة سيد قطب، هي تسمية دقيقة.

وقد استلفت نظري في المرحلة الأولى التي وضع المطيري البليهي فيها - وهي مرحلة التراث الإسلامي التقليدي - تبريراته المتتالية للاعتذار بالنيابة عنه لدراسته في كلية الشريعة!!! فالبليهي درس فيها - كما برر لنا المطيري - لثلاثة أسباب، هي:

كونه متدينا (الفرد)، كونه من أسرة دينية (العائلة) كونه يعيش في وسط عام متدين (المجتمع، مجتمع نجد)! ولن نفهم الداعي لهذه التبريرات التي تتالى ورودها بعد الإشارة إلى أنه درس في كلية الشريعة إلا بالعودة إلى كتاب البليهي (النبع الذي لا ينضب) الصادر عن نادي القصيم الأدبي (1990-1991) الذي وضعه مشاري خاتمة المرحلة الثانية. يقول البليهي في هذا الكتاب: «كل عربي أمنيته أن يكون شاعرا وليس طبيبا أو طيارا أو عالما (العلم هنا العلم التجريبي والعلم الإنساني الاجتماعي لا العلم الديني)، أو مخترعا».

أي أن البليهي الذي «اعتمد على ذاته في عملية خروجه من بيئته التقليدية، أو كما يسمّي هذه العملية الانعتاق من البرمجة الثقافية» والشغوف بـ«التطور المذهل في العصور الحديثة» والمهموم بسؤال شكيب الشهير (بعد الزيادة عليه وتعديل بعض الكلمات! فالسؤال الأصلي إذا كنتم تذكرون كان مختصرا)، يفترض ألا يدرس في كلية الشريعة، وإنما الأليق به أن يدرس في كلية الطب أو كلية الطيران أو كلية العلوم أو كلية العلوم الاجتماعية.

إن المطيري يحمَّل ماضي البليهي الدراسي أكثر مما يحتمل فالبليهي بعد نيله شهادة المتوسطة (أو الإعدادية) ترك الدراسة النظامية، والتحق بوظيفة في بلدية الرياض، وأكمل الدراسة الثانوية منتسبا. وبما أنه يريد إكمال الدراسة بالانتساب فليس أمامه سوى الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لاحقا). والرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية لا يوجد بها سوى كليتين هما: كلية الشريعة وكلية اللغة العربية، فإما أن ينتسب للأولى وإما أن ينتسب للثانية. فجامعة الرياض (جامعة الملك سعود لاحقا) لا يوجد بها نظام انتساب وحتى لو كان يريد أن يدرس بها منتظما فلن يتهيأ له ذلك لأنها لا تقبل المتخرج من المعهد العلمي.

وقد أكمل دراسته منتسبا إلى كلية الشريعة لا لغاية علمية وإنما لتحسين وضعه الإداري والمالي في البلدية، وهكذا فعل ويفعل الكثير من الموظفين المنتسبين للدراسة الجامعية وما قبل الجامعية.

ومن المناسب أن أوضح قضية تلتبس على كثيرين، وهي الدراسة في الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية، أو بعد أن تحولت إلى جامعة، اسمها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، انتظاما وانتسابا، فالدراسة فيها لا تعني – بالضرورة - أن الدارس متدين أو ملتزم دينيا أو أنه يريد أن ينهل من العلم الذي درسه، سواء كان هذا العلم دينيا أم علما وضعيا. فالغايات تختلف والأغراض تتباين.

أما مرحلة ما سماه مشاري بمرحلة الانشغال التام بالعمل الوظيفي بالبلديات والتي أسقطها المطيري، فهي تسمية مصيبة. لأن البليهي بعد أن كتب بحثه الجامعي عن سيد قطب لم يكتب بحثا آخر. ولم يكتب مقالات منتظمة أو متقطعة في المجال الذي يقع ضمنه بحثه الجامعي عن سيد قطب أو في مجالات ثقافية وفكرية أخرى. ولأن اسمه عرف عند البعض من خلال عمله رئيس بلدية في أكثر من مدينة، واشتهر بإخلاصه وتفانيه في العمل ونظافة يده. ولأنه ألف ثلاثة كتب يتصل موضوعها بالبلديات، وهي الشاهد على هذه المرحلة، الذي ذكره مشاري. فحين كان رئيسا لبلدية حائل ألف سنة 1980 كتاب (حائل والخدمات المدنية) وأصدر الجزء الثاني منه سنة 1980. وحين كان مدير عام الشؤون البلدية والقروية بالقصيم ألف سنة 1987 كتاب (برنامج تشجير وتجميل مدن القصيم).

وأما مرحلة الانفتاح على الفكر العالمي، فإني لم أفهم ما المقصود بها: هل يعني الاطلاع - مجرد الاطلاع - على كتابات مترجمة لغربيين ولصينيين وليابانيين ولروسيين إلخ؟.. أم يقصد هتافه للحضارة الغربية وللحضارة اليونانية وازدراءه لما سواهما من حضارات وفكر في التاريخ البشري؟! إنه حتما يقصد بها حصرا اطلاعه على كتابات بعض الغربيين المترجمة إلى العربية. وهنا تثور مشكلة أخرى فكتابات بعض الغربيين أو لنقل بصفة عامة الكتب التي ليست ضمن الكتاب الإسلامي المعاصر، كان يجب أن يقرأها وهو في مرحلة الإسلام المستنير.

فالإسلام المستنير منذ عصر النهضة العربي عند المشايخ والمثقفين والكتاب الدينيين لم يتم ويتحقق إلا من خلال الانفتاح في القراءة على ما كتبه الغربيون، والانفتاح أيضا - في عهود تلت عصر النهضة - على ما كتبه العلمانيون في البلاد العربية والبلاد الإسلامية.

يقول المطيري عن مرحلة الانفتاح على الفكر العالمي: إنها «ممتدة لأكثر من عقدين من الزمن عبر مقالاته الصحافية في جريدة (الرياض) السعودية، ومؤخرا عبر عدد لا بأس به من المحاضرات العامة واللقاءات التلفزيونية التي حقق من خلالها البليهي انتشارا كبيرا».

المخضرمون أمثالي يعرفون أن التاريخ الذي حدده المطيري لبداية هذه المرحلة غير صحيح. فالبليهي بدأ يكتب في جريدة «الرياض» من سنة 1993، والكتاب الذي أعدّه وقدمه عبد الله المطيري صدر سنة 2008 عن دار «الانتشار» العربي بالاشتراك مع النادي الأدبي بحائل. أي أن البليهي حين كتب المطيري مقدمته وذكر فيها تلك المعلومة، بلغ الخمسة عشر عاما وهو يكتب في جريدة «الرياض»، وليس أكثر من عقدين، كما زعم.

كما يعرف المخضرمون أنه بدأ الكتابة الصحافية في جريدة «عكاظ». بدأها بعيد المنتصف الأول من الثمانينات الميلادية فلماذا يسقط المطيري ومعه البليهي هذه المرحلة من حياته، ويصر على أن جريدة «الرياض»، كانت هي البداية؟! هذه المرحلة التي ذكرنا سابقا أن مشاري الذايدي سماها مرحلة النقد الثقافي، هي مرحلة مربكة ويصعب تصنيفها وتحديد طبيعتها. مشاري حدد بداية هذه المرحلة من كتابته في جريدة «الرياض» (كتابه بنيه التخلف هو مختارات من مقالات كتبها في الجريدة ما بين سنة 1993 وسنة 1994 وسنة 1995).

يمكن القول إن مقالاته في جريدة «الرياض» مختلفة بعض الشيء عن مقالاته في جريدة «عكاظ». كما يمكن القول إن كتابه (بنية التخلف) ومقالاته الأخرى في جريدة «الرياض» التي لم يضمنها في الكتاب، وكذلك مقالاته في مجلة «المعرفة» التي ضمها في كتاب عنوانه (وأد الإبداع) قدم له رئيس تحرير المجلة السابق زياد الدريس، تندرج ضمن النقد الثقافي لكن على نحو عام ومشوش.

أقول عنها مرحلة مربكة ويصعب تصنيفها وتحديد طبيعتها لأن فيها هجانة فكرية ونبو في الرؤى وعدم اتساق آيديولوجي واختلاط ما بين آيديولوجيا أوروبية يمينية (أميركية تحديدا) يعود تاريخها إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وآيديولوجيا إسلامية راسخة في تكوينه الثقافي والعقلي، شكلها في عقله ووجدانه سيد قطب والمودودي والندوي وغيرهم من كتاب الإسلام الحركي والإسلام الأقل حركية والأكثر اعتدالا تجاه إسلام مجتمعاتهم وتجاه الثقافة الغربية.

ولتأكيد أنها مرحلة مربكة توقع المصنف أو الممرحل في الخطأ حتى لو كان متابعا له، أذكر في مقالة لي وفي إشارة عابرة، أني قلت عنه إنه انتقل في الثمانينات الميلادية من التأثر بسيد قطب إلى التأثر بمالك بن نبي (سيد قطب ومالك بن نبي متضادان في منهجيهما الإسلاميين). وقبلي أشار الدكتور عبد الله الحامد إلى هذه الانتقالة في كلمة احتفائية ألقاها بمناسبة تكريم إبراهيم البليهي في إثنينية عبد المقصود خوجه. هذه المعلومة عرفها الحامد وعرفتها أنا بواسطة أشخاص قريبين منه. فهو الذي كان يقول لهم عندما يجري ذكر بحثه عن سيد قطب، إنه انتقل من التأثر بسيد قطب إلى التأثر بمالك نبي.

وعندما ندقق في ما كتبه بجريدة «عكاظ»، في الثمانينات أو في كتابه (النبع الذي لا ينضب) الذي كتبه في السنة الأولى من عقد التسعينات أو في ما كتبه في جريدة «الرياض» لا نلمس أثرا لمالك بن نبي. ولا تمثلا لمنهجه.

بالتأكيد إنه صادق في ما رواه عن نفسه، وعلى العموم هو أقرب للعفوية في مرحلة ما قبل دخوله إلى مرحلة الاستعراض الليبرالي التي دخل إليها منذ عقد، وصار مسكونا بتأصيلها في ماض مزعوم لكن المشكلة فيه وليست في المصنف أو الممرحل، فنص مالك بن نبي نص وعر ومركب، فلم يسلس له قياده مثلما سلست له قيادة نصوص إسلامية سهلة في مرحلته الفكرية الأولى أو نصوص ثقافية أجنبية مترجمة وعربية هي الأخرى سهلة والتي انفتح على قراءتها بعيد منتصف الثمانينات الميلادية وصار يجتافها مؤخرا.

في كتاب (النبع الذي لا ينضب) والذي اعتبره مشاري ختام مرحلة التأليف في الشأن البلدي والذي صنفه بأنه كتاب تجميعي (وهو بالفعل كتاب تجميعي بسيط) والذي أدخله عبد الله ضمن مرحلة الانفتاح على الفكر العالمي، نجد أفكارا تؤهله إذا ما أخذنا بنمذجة العروي أن يكون داعية التقنية في السعودية أو سلامة موسى السعودي، مع الفارق بينهما في المستوى الثقافي والأصالة في الطرح والوضوح في الانتماء الآيديولوجي والدور الإيجابي في بث الوعي والتنوير الذي أداه سلامة الأصل في مرحلة مبكرة في تاريخ الفكر العربي الحديث.

المفارقة أن البليهي رغم أنه إسلامي محافظ وسلامة موسى علماني راديكالي وقومي مصري فرعوني ويحمل في داخله أجندة طائفية، يشترك معه في العداء للأدب ومقت العرب.

لننظر إلى ماذا قال داعية التقنية السعودي في ذلك الكتاب.

يقطع البليهي - وهو يتحدث عن الحماس الشديد للعمل - أن «المجتمع العربي كله لا يأبه بهذا الجانب العظيم فنجد أن صفوة المجتمع من المفكرين والكتاب والمربين يتفاعلون مع الأثر المكتوب أو المسموع ويستأثر بكل اهتمامهم.. فالقصيدة الواحدة ما تكاد تنشر حتى نتلقاها بالحفظ والدراسة والتقريظ والنقد. وتبقى ردود الفعل محتدمة فترة طويلة. وهي تشغل من نعتبرهم صفوة العقول النيرة القادرة على الإسهام الحقيقي في البناء لو أنها اتجهت وجهة عملية إضافة إلى استنارتها الفكرية»! ويجزم بالقول: «إننا تعودنا أن لا نطرب إلا للشعر فلم يصبح إتقان العمل من القيم الكبيرة التي يحرص عليها الجميع. وبسبب هذا الخلل صار الطبيب يحرص على أن يقول الشعر أكثر من حرصه على أن يتقن مهنته»! وأن «العربي يولد ويعيش ويموت وهو لا يعرف للمجد بابا سوى باب الشعر. لذلك فإن كل أمنيته أن يكون شاعرا. وليس طبيبا أو طيارا أو عالما أو مخترعا».

ويعتبر أن الولع بالأدب، ولع هامشي. ويأخذ على الأديب الكبير أو الكاتب الشهير أنه «لا يستنكف أن يكتب دراسات مطولة عن قصيدة شعرية ذات مضمون مبتذل لكنه يجد غضاضة كبيرة في أن يكتب عن عمل إنشائي ضخم أو عن نجاحات عملية باهرة لأنه يعتبر أن الكتابة عن مثل هذه الأعمال إسفافا لا يليق بمكانته»! هذا الكلام لا يستحق المناقشة لأنه بائن العوار، لكن العجب أن تضمنه كتاب صادر عن ناد أدبي! ويمكن أن ألخص موضوع الكتاب، بأنه نشيد حماسي يهتف بين فقرات وأخرى بنداء: حي على العمل.

وينبغي أن أنبه إلى أنه في هذه المرحلة نكص عما قاله في مرحلته الأولى، إذ كان أكثر إيجابية في نظرته للأدب، وإن كانت هذه الإيجابية منحصرة في الدعوة إلى أدب إسلامي.

ففي المرحلة الأولى، مرحلة بحثه الجامعي عن سيد قطب، رأى أن سيد قطب لو لم يكن أديبا لما كانت له هذه المنزلة. ولولا ذلك لما كان في «ظلال القرآن»، بهذه الصيغة التي نقرؤها. وخطّأ الذين يستهينون بدور الأدب وينتقصون من مكانته ويظنون أنه من فضول المعرفة بل يعدونه ضياعا للوقت. ورأى أن الدعوة الإسلامية اليوم هي أحوج ما تكون إلى الاستفادة من الأدب.

السؤال: لماذا نكص عن رأيه الإيجابي بالأدب بعد عقدين وأصبح رأيه مثل الذين لم يسمهم، وهم طلبة العلم الديني في وقته، يستهين بالأدب ويعده ضياعا للوقت وإعاقة للعربي أن يلحق بركب التقدم؟

إنه في الرأي الذي عرضنا لمقتطفات منه، يجمع بين منطلق ديني محض غير معلن عنه، أضفى عليه شيئا من مسحة علموية برزت في الغرب مع الثورة العلمية، تنتصر للعلوم التجريبية وتعتبر أن الأدب شأن زائد عن الحاجة.

فضيلة كتابه التجميعي البسيط الوحيدة هي أنه أفضى لقارئه بمعلومة عفوية صار الآن يتنكر لها. وهي أنه في سبيل تأليف هذا الكتاب الذي يعتبره بحثا في مكمن التقدم صار يقرأ «الكثير من المواقف التاريخية الحاسمة. وكذلك السير الذاتية للأفراد الذين كان لهم إسهام في توجيه التاريخ البشري أو مشاركة كبرى في الوثبات الحضارية».

وصار يقرأ آراء علماء التربية وعلماء النفس. وحرص كثيرا على أن يتعرف على مختلف الطروحات المقدمة في تفسير التاريخ وفلسفته، وعلى ما قدمه علماء الاجتماع.

معنى هذا أنه في سابق عهده لم يكن يقرأ في هذه الموضوعات ولا في هذه الحقول، فهذه المعلومة العفوية تثبت دعواي أن القراءة في ما هو خارج الكتاب الإسلامي المعاصر وما يحف به من قراءات أخرى هي بالنسبة له قراءة مستجدة ومتأخرة بالنسبة لسنه ولعمره الثقافي.

هذه القراءة المستجدة والمتأخرة بدأت بعيد دعوته لمدينة بريدة، حينما تعين في سنة 1985، مدير عام الشؤون البلدية والقروية في منطقة القصيم، بدأت عن طريق بعض الأشخاص المهتمين بالثقافة بمدينة بريدة.

ولو طالعنا كتابه (بنية التخلف) الصادر في منتصف التسعينات الذي يعتبره جزءا صغيرا من مشروع فكري متكامل، لرأينا أنه كتاب غير علمي وغير بعيد في مستواه عن كتابه السابق (النبع الذي لا ينضب) وسنجد فيه أفكارا تتناقض والمنطق الليبرالي ومع ما صار يقوله بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) بسنتين وبضعة أشهر.

إليكم بعد المقتطفات منه: «ما أعظم أن يكون الإنسان ملتزما ومتدينا منذ بواكير شبابه، ذلك أن هذا الالتزام المبكر هو الدليل الأكيد على النضج العقلي المبكر. إن التزام المسلم بالنهج الديني منذ بداية حياته هو كسب عظيم له وهو ربح كبير لأمته. لأن الذي يلتزم بالخط الإلهي ابتداء لا يتعرض لضياع العمر ولا يتبدد جهده بين شتات الأهواء وأعاصير التيارات بحثا عن بدايات الطريق».

«نعمة كبرى أن يولد الإنسان في بيئة إسلامية».

تفشي النميمة، والثرثرة وتجريح الآخرين، والاعتداء الشائن على أعراض المسلمين باسم الغيرة الدينية، تسفيه العقلاء... من أشد أسباب التخلف.

«الأخلاق العالية - كما يعرف الجميع - هي من أقوى العوامل المحركة للتاريخ».

«المسلمون الذين يعانون من التخلف والفقر والهوان في أغلب بقاع الأرض لن يستطيعوا تجاوز هذا الوضع المهين حتى يلتزموا بالإسلام في الفكر والسلوك وحتى ينشغلوا بالعمل الجاد المتقن عن الثرثرة الفارغة والكلام السخيف الأخرق».

هل شد انتباهكم أن النميمة والثرثرة إلخ.. هي من أشد أسباب التخلف، وأن الأخلاق العالية من أقوى العوامل المحركة للتاريخ؟! إنه لو قال هذا التعليل قبل قراءته المستجدة والمتأخرة لعذرناه، لكن أن يقول به بعد قراءته لـ«تفسير التاريخ وفلسفته»، فهذا دليل ساطع على أنه ليس بإمكانه أن يكون غير واعظ.

وفي مقال له بتاريخ 8 يناير (كانون الثاني) 1993 عنوانه (العجز عن التفاهم.. ما سببه؟) جزم «أن العنف المتداول في الكثير من ديار المسلمين يؤكد أن هجمة الأعداء لم تكن سببا لضعفهم وهوان حالهم. ولكن هذه الهجمة جاءت نتيجة لهذا الضعف وهذا الهوان» وضرب مثلا باليابان لنحتذي بها. فأعداؤها «لم يستطيعوا أن يجعلوا اليابانيين يقتتلون فيما بينهم».

بصرف النظر عن أنه لم يحدد العنف الذي يعنيه بحديثه هذا، هل هو عنف الحركات الأصولية في مواجهة الحكومات العربية أم عنف الأخيرة في مواجهة الأولى أم الاقتتال الذي كان دائرا بين الفصائل الأفغانية؟ وبصرف النظر عن أنه أيضا لم يحدد مقصوده بهجمة الأعداء (أعداء المسلمين)، فإن مقاله الطويل يمثل الفلسفة التي يعتنقها في تفسير التاريخ. والمقال من أول فقرة فيه مسخر لإبداء رأي في قضية صغيرة، جاء في الفقرات الثلاث الأخيرة من المقال.

لأورد ما قاله في قضية صغيرة جدا، والتي زجها هو في قضايا كبرى.

«المثال الآخر ما تعرض له شيخ الدعاة المفكر الكبير الشيخ محمد الغزالي الذي تعرض لحملة ظالمة شرسة وصل بها الجور والتحامل إلى حد أنهم وضعوا اسمه بالخط العريض على غلاف أحد الكتب مع أتاتورك وأمثاله من الذين عرفوا بحربهم للإسلام. الشيخ الغزالي الذي جهر بالحق في سنوات كئيبة حينما كان وحيدا في ذلك الجو المكفهر الذي استشرى فيه المد الإلحادي.

حيث كان الإلحاد مدعوما من القيادات العسكرية تكتم أنفاس الحق وتخنق أفكار الأحرار في ذلك الجو الذي كان مشحونا بالرعب كان الشيخ الغزالي يطلق قذائف الحق.. ثم يأتي الآن من يضعه دون حياء ولا ضمير مع المعادين للإسلام».

هذه القضية الصغيرة هي أنه في سنة 1993 صدر ضمن الردود على كتاب الشيخ محمد الغزالي (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) الذي ألفه أخر الثمانينات، كتاب في غلافه صور كل من: رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ولطفي السيد، ومحمد حسين هيكل، وسعد زغلول، وطه حسين، وخالد محمد خالد، ومصطفى كمال، وجمال عبد الناصر.

هؤلاء هم الذين في مقاله عرفوا بحربهم وعدائهم للإسلام. وهؤلاء هم الذين استفز وضع صورهم إلى جانب اسم الغزالي حسيته الإسلامية الإخوانية.

وللدفاع عن الشيخ الغزالي في هذه القضية الصغيرة (قضية الصور) سوّغ لها بمثال سلفي محلي، فاستشهد قبلها بما حصل مع الشيخ محمد بن عثيمين في موضوع (المعية) في مطلع الثمانينات الميلادية.

الكتاب كتاب غفل، ولم يشتهر ولم يؤثر في الناس مثل باقي الردود على كتاب الغزالي، الذي كان أولها رد الشيخ سلمان العودة الذي أصدره في كاسيت إسلامي ثم أصدره بكتاب في آخر الثمانينات وكان له أبلغ الأثر في جمهور الصحوة والناس العاديين في السعودية. فلماذا تجاوز الكتاب المؤثر إلى كتاب غفل؟! يدهشك في هذه الأسماء أسماء مصلحين دينيين كالأفغاني ومحمد عبده اللذين الغزالي نفسه كان ضد النيل منهما بوصفهما من ريادات الفكر الإسلامي الحديث، واسم كالطهطاوي الذي أقلع كثير من الإسلاميين من التشنيع عليه باعتباره أس التغريب في مصر، واسم كخالد محمد خالد الذي دعا إلى التجديد الديني وعلمنة الإسلام ثم تحول عن هذه الدعوة إلى اتجاه تقول به مجمل الحركات الإسلامية.

ويدهشك في هذه الأسماء أن من بينها اسم لطفي السيد وسعد زغلول، وطه حسين ومحمد حسين هيكل. فلطفي السيد هو رأس المدرسة الليبرالية والمنظر لها في مصر، والبليهي في السنوات الأخيرة يعد نفسه ليبراليا ويذهب الشطط به - كما ذكرنا أكثر من مرة - إلى تأصيلها في ماضيه الفكري. كما أن آراءه السياسية في الغرب تسقى من معين لطفي السيد ومن معين جيله في حزب الأحرار الدستوريين.

ولطفي السيد رغم علمانيته، وعدم تدينه الشخصي لم يعرف عنه العداء للإسلام ومحاربته. وكذلك الزعيم الوطني المصري سعد زغلول لم يعرف عنه هذا الأمر ألبتة.

أما طه حسين، فالمدهش في ضمه لهذه الأسماء، أن البليهي في السنوات الأخيرة أصبح يردد ما كان يقوله طه حسين متأثرا برينان عن إعجاز واستثنائية وفرادة الحضارة اليونانية، ويقصر عنه في جرأته، إذ إن طه حسين كان ينتصر بوضوح للفلسفة اليونانية إزاء الأديان السماوية.

والمدهش أيضا أن طه حسين بعد أن عرّف السوري قسطاكي الحمصي في كتابه (منهل الوارد في علم الانتقاد) المطبوع بالقاهرة سنة 1907 بمنهج سانت بيف وتلميذه هيوبولت تين، هو أول من طبق هذا المنهج في أطروحته العلمية (تجديد ذكرى أبي العلا) التي تقدم بها إلى الجامعة الأهلية (الجامعة المصرية، جامعة الملك فؤاد، جامعة القاهرة لاحقا) لنيل شهادة الدكتوراه سنة 1914، وذلك قبل أن يذهب إلى فرنسا في بعثة علمية. والأطروحة طبعت سنة 1915. ثم ما لبث طه حسين بعد انصرام فترة من الزمن أن خفف - كما يقول الدارسون - من الأخذ بمنهج سانت بيف وتين بحذافيره إلى التوفيقية وإلى المزاوجة بينه وبين المنهج التأثيري أو الانطباعي.

والمدهش في ضم اسم محمد حسين هيكل هو للسبب الأخير، فمحمد حسين هيكل هو الذي قدم شرحا وبسطا وافيا لمنهج تين في كتابه الشهير: (تراجم مصرية وغربية) وعن هذا المصدر ومصادر مصرية أخرى، تعرف البليهي على منهج تين. وإضافة إلى هذا أنه لم يعرف عنه إبان قوميته المصرية الفرعونية واتجاهه للغرب عداء أو حرب على الإسلام. وأنه بعد تحوله إلى اتجاه إسلامي، تعد كتبه الإسلامية من روافد الكتاب الإسلامي المعاصر.

إن الاقتباس الذي أوردته من مقاله، يوضح أنه متأثر بمنهج بعض الإسلاميين كمحمد محمد حسين ومن بعده أنور الجندي وغازي التوبة، وهو المنهج الذي بالمناسبة، كان الشيخ محمد الغزالي يختلف معه ويدينه.

والاقتباس يكشف عن أنه منغلق على رؤية الإخوان المسلمين للفترة الناصرية. وعيب هذه الرؤية أنها دعائية وتلجأ للكذب والتزوير بسبب الصراع السياسي مع عبد الناصر ومع الفكر العربي القومي في مصر وفي غيرها من البلدان العربية.

إن البليهي لا يلتفت للتناقض الذي وقع فيه. فمن بين الكتب التي بدأ يقرأها بعيد منتصف الثمانينات بعد أن خرج من شرنقة الكتاب الإسلامي المعاصر، وصار يتبنى بعض أفكارها، كتب تعبر عن اتجاه أوروبي وأميركي يميني معاد للإلحاد وللأفكار الماركسية، صدرت في عهد جمال عبد الناصر ضمن سلاسل كتب رسمية مشهورة وعبر دور نشر معروفة بتوجهها السياسي والفكري للغرب ولأميركا. صحيح أن التوجه الأميركي الثقافي لمصر هو أقدم من عهد عبد الناصر لكن عبد الناصر استمر فيه وباركه قبل تحوله للاتحاد السوفياتي وبعده.

إن ما يكتبه البليهي منذ ذلك المقال وقبله - والذي يركز فيه على سير الأعلام الناجحين في الغرب في مختلف المجالات وعلى العبقرية والتفوق الفردي - هو ثمرة التوجه الأميركي الثقافي لمصر والذي زاد صعوده في عهد عبد الناصر، وهو أيضا من ثمار الحرب الباردة ما بين الرأسمالية والشيوعية وأميركا والاتحاد السوفياتي. لذا فإني أدعو القارئ أن يعود إلى كتابات هذه المرحلة لأن البليهي يقدم أفكارها بصورة هي أقل بكثير من مستواها في مصدر ها الأصلي.

ومما أتعجب منه أن البليهي مع أنه ربيب الكتاب الإسلامي المعاصر وأدبيات الإخوان المسلمين إلا أنه يجهل أن الشيخ محمد الغزالي لم يواجه عنتا في عهد عبد الناصر، بل كان معززا مكرما، لأنه كان متحالفا معه ضد الإخوان المسلمين.

لأعرّف لقارئ البليهي منهج تين الذي تعلق به مؤخرا، أنقل له بوجازة عن مصادر متخصصة الآتي:

يعتبر منهج تين وقبله منهج أستاذه سانت بيف بدايات المنهج التاريخي المادي في دراسة الأدب وبدايات الواقعية الأدبية ويمثل هذا المنهج عند الأستاذ لا التلميذ لحظة العبور من الرومانتيكية إلى الواقعية ويسمى هذا المنهج تارة المذهب الطبيعي في الأدب وتارة يسمى النقد العلمي للأدب وتارة يسمى المذهب أو المنهج الواقعي. ومن رواد هذا المذهب الطبيعي إضافة إلى سانت بيف وتلميذه تين، زولا وبلزاك وستندال والإخوان جونككور وموباسان إلخ.. وقد نشأ هذا المذهب خلال القرن التاسع عشر.

أخضع سانت بيف الأدب لقوانين العلم والطبيعة وكان تنظيره وتطبيقاته النقدية، كما حددها هو، البحث عن التاريخ الطبيعي/ المادي للأدب وعن التاريخ الطبيعي/ المادي للأرواح. فهو كان يرى أن العمل الأدبي يرتبط ارتباطا متينا بالصفات الجسمانية والحياة الخاصة لصاحبه وبالوسط الاجتماعي الذي يحيط به. لذلك كان بيف - لتحديد موقع العمل الأدبي ووظيفة النقد الأدبي وتبيان حقيقة الأدب - يتعقب كل ما له صلة بصاحبه ويدرسه دراسة فسيولوجية واجتماعية ونفسية. ثم أتى تلميذه تين فذهب أبعد مما ذهب أستاذه في تطبيق قوانين العلم الصرف على الأدب. فجزم أن الإنسان - كما الحيوان والنبات - يخضع لقوانين لا محيد عنها ولا فكاك منها ولا تبدل فيها.

والاختلاف في عالم الإنسان اختلاف في الفصيلة أو النوع، مثلما هو الأمر جار في عالم الحيوان وعالم النبات. وقد اختصر هذه القوانين - كما تقدم في الحلقة الأولى - بالعرق وبالبيئة وبالعصر.

فالإنسان في جماعة قومية ما، يولد باستعدادات فطرية وراثية لها صلة في تركيبة مزاجه النفسي وفي تركيبته العضوية. وهذه الاستعدادات والتركيبة النفسية والعضوية، تحدرت إليه بعامل الوراثة من تلك الجماعة التي ينتمي إليها عرقيا والتي هي متحدرة من أصل واحد.

وهذا الإنسان لا يعيش وحده، معزولا عما حوله. فهو محاط بوسط جغرافي ومكاني واجتماعي، تشكل العوامل الطبيعية (من تضاريس ومناخ وغذاء)، والعوامل السياسية والاجتماعية فيه عنصرا مؤثرا في صنع تفكيره وتكوين شخصيته.

ويلي هذين القانونين في الأهمية قانون ثالث: يسميه العصر أو اللحظة، ويعني به، كما يقول محمد غنيمي هلال: «الدوافع الموجهة للأدب من تراثه الماضي أو الحركة المكتسبة من ثقافة الشعب في تاريخه، أو تأثير الماضي في الحاضر، ومناصرته له».

وضمن هذا المنحى، منحى النقد العلمي، يبرز اسم ثالث شهير، هو برونتيير الذي طبق نظرية داروين في النشوء والارتقاء على الأدب وتاريخ تطوره. ويرد اسم رينان ضمن المذهب الطبيعي لكن في مجال آخر، هو مجال الدراسات اللغوية والتاريخية والدينية وليس مجال الأدب والنقد الأدبي.

البليهي في تأثره بآراء رينان يأتي بها منقوصة فيعزل الإسلام عن العرب ويعزل العرب عن الإسلام، لتدينه ولإسلاميته المحدثة. وكذلك يصنع في استشهاده بمنهج تين من دون أن يسمي المنهج ويسمي صاحبه، فهو يقصر المنهج على العرب عرقا وجماعة قومية وبيئة جغرافية ومكانية، بعواملها السياسية ولا يمده أو يشمل به الإسلام، مع أن الإسلام لا يمكن بأية حال فصله عن بيئته العربية الأولى من نواح شتى.

والحق أننا إذا ما أردنا التعرف على تطبيق منهج تين على الحياة الأدبية والثقافية عند العرب قبل الإسلام وبعده، من حيث نجاعته وحدوده، علينا الرجوع إلى المصدر الذي أخذ البليهي المنهج منه، وهو مثقفو القومية المصرية وأدباؤها ونقادها، فلقد أوسعوه عبر عقود تقارب الخمسين سنة، تطبيقا كما هو في الأصل، وبتطوراته اللاحقة عند أعلام آخرين ممن ينتظمهم المذهب الطبيعي في الغرب.

أما البليهي فلن يساعدنا في ذلك، لأن تطبيقه لمنهج تين هو أقرب للبيانات الصحافية والبلاغات الآيديولوجية، وأدنى لأمشاج علموية وصحوية.

هذا المذهب له سياقه ومبرراته ومسوغاته التاريخية في الغرب، وله مثل هذا في تاريخ الثقافة في مصر اللذين لسنا بصدد عرضهما، فما الذي جعل البليهي يتعلق بأفكار رينان و(يتشعبط) بمنهج تين؟

في تقديري أن الذي جعله يفعل هذا هو أنه في الأصل شعوبي ناحية العرب في حاضرهم وفي ماضيهم الإسلامي وقبل الإسلامي. هذه الشعوبية استمدها من التيار الإسلامي المتأثر بالصراع السياسي والآيديولوجي مع الأنظمة السياسية القومية ومع تيارات الفكر العربي القومي والتيارات التي تجمع بين القومية واليسارية. فالتيار الإسلامي، منذ عقدي الخمسينات والستينات، تأثرا بمجريات هذا الصراع بدأ يخفض من شأن العرب ويعلي من شأن القوميات الإسلامية الأخرى، ويقدم العرب في صورة الغادرين برسالة الإسلام منذ صدر الإسلام، والغادرين بالخلافة الإسلامية في أخريات الدولة العثمانية والمتنكبين عن طريق الإسلام باسم التحديث مع نشوء الدولة الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار.

ولقد وجد ضالته في أدبيات القومية المصرية ذات المرتكز الفرعوني، فهي تزخر بثلب العرب واحتقارهم وازدراء بيئتهم الصحراوية والبدوية.

وبما أن كثرة من هؤلاء يحذرون من الاقتراب من منطقة الإسلام، بل كانوا يهادنونها، نظرا لأن الشعب المصري في أغلبيته شعب مسلم متدين، ولأنه كانت ثمة حسابات سياسية حزبية يجب عند الحديث عن الإسلام أن تؤخذ بالحسبان. ناسبه ما قرأه لأنه لا يتعرض للإسلام بكلام سافر أو وقح بحيث يصدم حساسيته الدينية. ولأنه يدعم اتجاهه الشعوبي بمقولات جديدة عليه.

السبب الثاني أنه قبيل حادثة الحادي عشر من سبتمبر بسنتين ومعها برز في السعودية كتاب يتعرضون بالنقد والمراجعة للخطاب السلفي، وتكثف هذا الاتجاه بعد الحادثة، فتاق هو بعد مرور سنتين وبضعة أشهر عليها (أي بعد تقاعده من العمل الحكومي) أن يكون ثوريا ويلحق بركب هذا الاتجاه لكن بمحتوى مغاير وبضاعة مختلفة جلبها من أدبيات ما قبل ثورة 1919 المصرية وما بعدها، ومن أدبيات أخرى متأخرة عنها في الزمن.

ذلك الاتجاه بنقده ومراجعته كان مفيدا، وبلا شك أنه اصطدم بحساسيات مختلفة في المجتمع السعودي، بينما ثورية البليهي المفاجئة لم يكن لها معنى في هذا المجتمع، ولم يكن مقدرا لها أن تصطدم بآراء قوى اجتماعية ودينية فاعلة ونافذة فيه. لأن هذه القوى أساسا ليست غيورة على عصر النهضة العربي ولا على أدب العرب في العصر الجاهلي، والعصر الأموي والعصر العباسي إلخ.. ولا على إرث الحضارة العربية الإسلامية، العلمي والفلسفي.

يخطئ الذين يقولون إن البليهي يجلد ذاته، فما يجلده هو بالنسبة له ذاتا أخرى، هو على غير وفاق معها من الأصل. فذاته الحقيقية، هي سيد قطب والمودودي وعموم الحركات الإسلامية وعموم الكتاب الإسلاميين. ففي كل ما كتبه من إجابات على أسئلة، تخص سيد قطب أو تتعلق بالحركة الإسلامية، كان يحمِّل الغير أخطاء سيد قطب وأخطاء الحركة الإسلامية، ومن هذا الغير: طغيان الأنظمة السياسية العسكرية، وباء الكراهية العميق والعريق في الثقافة المحلية والعربية وثقافة الاستئصال العريقة والشائعة في البيئة العربية (!) والسلفية المحلية (يومئ إليها من بعيد وبطريقة غير مباشرة)، هوان المسلمين وضياع حقوقهم، معضلة العرب والمسلمين الثقافية والسياسية الناشئة عن الانغلاق الثقافي والاستبداد السياسي وقمع التعددية الفكرية.

بالنسبة للسبب الأول، وهو أنه في الأصل شعوبي ناحية العرب وأن هذه الشعوبية استمدها من التيار الإسلامي، يعسر أن أحيل القارئ إلى كتب بعينها لأنها متناثرة في أدبياتهم. لذا فسأحيل إلى كتيب صغير. أعتقد أن الإحالة إليه كافية لأنه كثف فيه رؤية قطاع من الإسلاميين الشعوبية للعرب. ولأن من سيقرأه سيكتشف أن بعض آراء البليهي السياسية والثقافية وحديثا، هي ترديد لما جاء في ذلك الكتيب.

الكتيب الصغير، اسمه (الشعوبية الجديدة). ومؤلفه محمد مصطفى رمضان. والمؤلف إذاعي وكاتب صحافي ليبي ينحو في اتجاهه الإسلامي منحى قطبيا. وكان يكتب مقالات إسلامية سياسية في مطبوعات إسلامية، منها مجلة «الشهاب» ومجلة «المجتمع». عمل مذيعا في إذاعة «بي بي سي»، ومنها عرف اسمه. وكان في مبتدأ أمره يحسن الرأي بنظام معمر القذافي لمظاهر إسلامية بدت في توجهات نظامه. وقد قتله نظام القذافي سنة 1980 بثلاث رصاصات عقب خروجه من مسجد ريجنت بارك بلندن، بعد أن أدى صلاة الجمعة.

وذلك الكتيب هو مؤلفه الوحيد، وصدر أول مرة سنة 1969، وحمل عنوان (الشعوبية الجديدة)، وصدر مرة ثانية سنة 1971، وحمل عنوانا إضافيا (الشعوبية الجديدة: فصول في التاريخ والسياسة - العبث الماركسي). وصدر مرة ثالثة في تاريخ غير متفق عليه عند الذين تعرضوا لتاريخ طبعاته وتاريخ صاحبه. ونشرت فيه - كما قالوا - مواد لم تنشر في الطبعة الأولى وفي الطبعة الثانية.

الكتيب في طبعته الثالثة الذي حمل العنوان نفسه الذي حملته الطبعة الأولى، يعتبر الصيغة الكاملة والنهائية للكتيب. ولا أعلم إن كان أحدث تعديلات على ما نشر منه في الطبعتين الأولى والثانية، لأن ما تحت يدي هو الطبعة الثالثة منه.

البليهي منذ أن صدرت أجزاء من هذا الكتيب بصيغة منشور سياسي وآيديولوجي وزعه الإخوان المسلمون في السعودية وفي غيرها من البلدان العربية، متعلق به، فلقد أحال إليه في هامش، بعد أن ذكر ستة من المراجع، تعين في التعرف أكثر، على رد الفعل الذي أحدثه كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي).

المراجع الستة التي ذكرها، تتوفر فيها معلومات عن معركة كتاب (الشعر الجاهلي)، في حين أن كتيب محمد مصطفى رمضان - وأنا أحتكم إلى طبعته الكاملة والأخيرة - ليس فيه وقوف عند تلك المعركة، مما يدعونا للسؤال: لماذا أحال إليه؟ تضمنت خاتمة بحث البليهي عن سيد قطب، إشادة بمقالة لأحمد زكي منشورة في مجلة «العربي» عن مؤتمر القمة الإسلامي، وأبدى فرحه بها لأنها جاءت من أحمد زكي رئيس تحرير مجلة «العربي»! وأوضح أنه لا يضعه في قفص الاتهام، كما يحلو للبعض أن يضعوه، واستدرك قائلا: «أعرف أنه ليس من المتحمسين للدعوة الإسلامية، بل كل ما أستطيع قوله إنه أخذ في الاعتدال»! من هم البعض الذين يضعون أحمد زكي في قفص الاتهام؟ البعض هم محمد مصطفى رمضان الذي نال من أحمد زكي ومن مجلة «العربي» في كتيبه (الشعوبية الجديدة)، ومجلة «المجتمع» وأسرة تحريرها.

فخلافه مع محمد مصطفى رمضان، هو أنه يأمل في أحمد زكي خيرا.

يا لسعة خلاف البليهي معه ومع ما جاء في كتيبه..

وللحديث صلة...