أيتام سوريا.. على مائدة موسكو وبكين

TT

إنْ كان مَن ذَبَحُوا التاريخَ هُمْ نَسَبي على العُصورِ.. فإني أرفضُ النَّسَبا

(نزار قباني)

آن الأوان، باعتقادي، للكف عن محاولة تخدير النفس بالأوهام. حرام أن نواصل التكاذب أمام خلفية إراقة الدماء وكبت الشعوب وخنق توقها إلى الكرامة والإنسانية الحقة.

بالأمس، بعد «الفيتو» الروسي - الصيني الثاني لوقف مجازر سوريا خلال أشهر معدودات.. سقط خلالها بضعة آلاف من الأبرياء، وقفت سوزان رايس تهاجم موسكو وبكين على هذا التصرف المقزز.

رايس كانت جزئيا على حق، فما فعلته القيادتان الروسية والصينية هو تجديد، بل تأكيد، ترخيصهما لحكم دموي مجرم بمواصلة قهر شعبه. إن أي نقطة دم تراق مستقبلا من أي سوري – وغير سوري أيضا على امتداد الشرق الأدنى – تتحمل القيادتان الروسية والصينية مسؤوليتها الأخلاقية والمعنوية. لكنني قلت «جزئيا»، لأن واشنطن آخر من يحق لها المحاضرة بالعفاف على هذا الصعيد. فواشنطن استخدمت عام 1982 «الفيتو» تلو «الفيتو» لمنع وقف الاجتياح الإسرائيلي للبنان. كذلك استخدمت «الفيتو» مرارا وتكرارا لنسف أي قرار يردع إسرائيل عن قتل الفلسطينيين وسلب أرضهم وتشييد المستعمرات عليها.

ما نحن بصدده راهنا هو أن واشنطن ليست مؤهلة «لتعليم» موسكو وبكين «أخلاقيات» السياسة ومناشدتهما الارتفاع إلى مستواها الأخلاقي، وأننا أمام حالة مخجلة نجد فيها دولتين مهمتين عالميا تنحدران بوقاحة فظيعة إلى المستوى ذاته من ازدواجية المعايير.. التي طالما انتهجتها الإدارات الأميركية المتعاقبة في مسائل منطقتنا.

نحن كشعوب عالم عربي، أو أمة عربية – إن شئتم – بتنا «ضحايا» رخيصة لا حساب لكرامتها ولا لدمائنا المهدورة عند ثلاث «واشنطنات»، إحداهن فقط أميركية. ولكن هذا الواقع المؤلم لا يكفي لشرح كل خلفيات محنة سوريا، ومعها ما حصل ويحصل في لبنان والعراق اللذين باتا جزءا من منظومة واحدة قرارها المصيري في مكان آخر. ولا يكفي كذلك لشرح أبعاد «المحور السياسي – الديني» الذي تجسده الحالة السورية، ببعديها العراقي واللبناني، ولا التداخل الاستغلالي الخطير للحالة الفلسطينية - الأردنية، ولا تبعات التمددات والتشظيات في الخليج واليمن، بل ومصر أيضا.

بالأمس برهنت موسكو وبكين أن سجل كل منهما في مسائل حقوق الإنسان – ومنها حق تقرير المصير – ليس أفضل بكثير من سجل القوى الإمبريالية التقليدية القديمة... التي كنا حتى الماضي القريب نهتف ضدها، وندين أطماعها وعنصريتها. أصلا لماذا نتوقع من موسكو أن تتعاطف مع الشعب السوري بطريقة تختلف عن تعاملها مع الشيشان والجورجيين؟ أو نتوهم أن مَن يقمع في التيبت ويزرع المستوطنين الهان في إقليم تركستان الشرقية (سنكيانغ) سيهبّ فجأة للدفاع عن مظلومي حمص وإدلب في وجه «شبيحة» بشار الأسد و«بلاغة» بشار الجعفري؟

ثمة مؤامرة تنفذ فصولا في النصف الشرقي من المنطقة العربية عبر ثلاث قنوات: الأولى، التخطيط التاريخي المسبق. والثانية، الاستفادة غير المباشرة من خلال تقاطع المصالح الاستراتيجية والتكتيكية الإقليمية. والثالثة، تحديد أثمان محددة لترسيم مناطق النفوذ العالمية. وفي كل خطوة من خطوات تنفيذ المؤامرة يظهر ويخبو الدور الإسرائيلي النشط. وكذلك قوة دفع «المشروع الإيراني» الهادف في نهاية المطاف إلى التوصل إلى صفقة جيوسياسية في المنطقة.

الدور الإسرائيلي، المؤثر دائما على توجهات التحركات الأميركية الإقليمية وسرعة إيقاعها، يعرف ماذا يريد تماما. ولقد كان المستفيد الأكبر مما جرى في كل من العراق ولبنان منذ 2003، وطبعا ما حصل في سوريا منذ خريف 1970 عندما تولى حافظ الأسد السلطة بفعل «الحركة التصحيحية». مع هذا يفاجئ البعض «سر» التعايش الواقعي بين تصاعد العدوانية الإسرائيلية... والحماسة التحريرية الإيرانية!

إيران موجودة على الحدود مع إسرائيل. موجودة في جنوب لبنان وعلى خطوط الهدنة في الجولان.. وهذا على الأقل ما قاله صراحة قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» الإيراني. والسيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله اللبناني، يدرك هذه الحقيقة. وهو أذكى من أن يخدعه شخص بمستوى ميشال عون وأتباع ميشال عون. ولكن مع هذا غض نصر الله – حتى اللحظة – النظر عن إدانة أحد أبرز أتباع عون بالعمالة لإسرائيل في محكمة أصدرت حكمها القضائي بالإدانة رغم هيمنة «الحزب» المطلقة على مقدرات لبنان.

ثم إن نصر الله يعرف جيدا تاريخ ميشال عون السياسي والعسكري، وعلاقاته مع «اللوبيات» ذات الصلة الوثيقة مع إسرائيل في واشنطن، ومع ذلك فوضه بشل الحكومة اللبنانية التي شكلها الحزب عمليا. وقبل أن ننسى، يتذكر السيد حسن – حتما – مباهاة «حليفه» الصغير بـ«أبوة» القرار 1559 (الداعي للانسحاب السوري من لبنان) و«قانون محاسبة سوريا» في الكونغرس الأميركي. وأزعم أنه على بينة من «ملابسات» اغتيال عماد مغنية في قلب دمشق وسط صمت مريب.. وسكوت يثير الريبة أكثر عن سير التحقيق. إلا أن علامات الاستفهام لا يعود لها أي مبرر منطقي إذا ما تذكرنا حقيقتين اثنتين:

الأولى، مباركة طهران الصامتة العلاقات الوثيقة التي نسجتها كبريات القيادات العراقية المناوئة لصدام حسين، والمحسوبة عليها، بل والناشطة فوق أرضها، مع «اللوبي» الإسرائيلي الأميركي. وهو «اللوبي» الذي شكل من خلال أشخاص كريتشارد بيرل وبول وولفويتز ودوغلاس فيث وديفيد وورمزر... القوة المخططة والراعية والمنفذة لغزو العراق واحتلاله.

والثانية، دور دمشق – المباشر أو غير المباشر – في عمليات «تسلل» جماعات «القاعدة» إلى العراق، ولا سيما في ظل صمت مريب آخر عن نشاط «أبو القعقاع» محمود قول آغاسي، ثم عن اغتياله في حلب و«أسرار» التحقيق المكتوم أمره... وكأن قاضي تحقيق واحدا يتولى ملفه مع ملف اغتيال عماد مغنية.

بعد «الفيتو» الروسي – الصيني الثاني، غدا السيناريو العنفي، مع الأسف، هو المرجح في سوريا. والكلام المنقول عن مصادر في حزب الله اللبناني حول مقاومة الحزب أي تغيير في دمشق مهما كلف الأمر، معطوف عليه عرض عضلات حزب الله العراقي ضد شركاء السلطة في بغداد.. يصبح خطر الحرب الأهلية الإسلامية – الإسلامية داهما وجديا.

ولئن كان حزب مذهبي مسلح قد قرر خوض حرب ضد شعب شقيق يثور على نظام حكمه مسألة ذات تبعات خطيرة للغاية، فإن الخطورة تزداد عندما يكون القرار المركزي لهذا الحزب، المتعدد الفروع، موجودا في طهران وليس في العالم العربي، بل وتتضاعف خطورة قتال حزب الله دفاعا عن النظام السوري ضد شعبه عندما ينسجم تماما مع الاستراتيجية الإسرائيلية المزمنة القائمة على إشعال الحروب الأهلية في أي مكان أو كيان تخشى تهديده. وكانت البداية في الأراضي الفلسطينية بالذات.

الآن، بتواطؤ روسي – صيني وتحت إشراف «الراعي» الإيراني نفسه، ولو بعكس كل شعاراته السياسية المعادية لإسرائيل والصهيونية، تنزلق سوريا إلى نموذج «تقسيمي» يجمع فتنتي «اللبننة» بمضمونها الإسلامي المسيحي، و«العرقنة» ببعدها السني – الشيعي – الكردي... بمباركة إسرائيلية صامتة.