الصراع الاجتماعي وجه آخر للمأساة السورية

TT

أتأمل المشهد الميداني لعشرات ألوف المحتجين في المدن والأرياف السورية. ثم أقارنها بمشهد المتظاهرين الذين حشدهم النظام، إكراها أو طوعا، في مسيرات «منحبَّكْ».

ألاحظ التباين الكبير في المظهر والسلوك. في مسيرات الاحتجاج، الثياب رثة. الشعارات واللافتات تعبر عن رفض مطلق. جموع بشرية هائمة على وجوهها. رائحة. غادية، بلا تنظيم. فالنزول إلى الميادين والساحات عفوي. لا إكراه. لكن التصميم واضح. لا رعب. لا خوف من آلة القمع الوحشية. فقد تساوت الرغبة في الحياة مع الاستعداد للموت.

في المراحل الأولى، كان هناك إصرار على سلمية الاحتجاج. الكهول أنزلوا معهم أطفالهم. كأنهم ذاهبون إلى «كرنفال» بهيج. توارى الأطفال الآن. فقد اغتال عنف النظام الأرعن سلمية التعبير.

في مسيرات الولاء، التنظيم واضح. المسيرة موجهة. الوجوه هادئة. مستريحة. الثياب مهندمة. المرأة سافرة ومحجبة. الحماسة غائبة، إلا لدى الشبيحة وشبيبة الطائفة الذين يتقدمون كل مسيرة. ليظهروا في الصورة الإعلامية الدعائية.

هنا الطلبة كبار وصغار. هنا موظفون وعمال انتزعوا، عنوة، من أعمالهم. ضاع يوم دراسة وإنتاج. فالنظام بكل جبروته عاجز عن إنزال هذه القطعان البشرية في يوم الراحة الأسبوعية. فيوم الجمعة محجوز لاحتجاجات الشعب.

بين مسيرات «منحبَّك» وتظاهرات «ارحل»، يكمن الوجه الآخر للمأساة السورية. إنه الصراع الاجتماعي بين ريف المدن الصغرى والمتوسطة (حماه. حمص. درعا. ادلب. دير الزور...)، والطبقتين الوسطى والبورجوازية في دمشق وحلب.

في هاتين المدينتين الكبيرتين، يخيم صمت قلق على ثمانية ملايين سوري، ليس حبا في النظام، وإنما رضا عن الرُشا التي وفرها: ليبرالية حرة لتجار البازار. زيادات متوالية على رواتب الموظفين. أمن مدني صارم ضد الجريمة. تجميل للساحات والميادين. فنادق فخمة تُنسي المقيم والزائر أحزمة البؤس المحيطة بالمدينتين التي تتفجر اليوم غضبا واشتعالا، في وجه نظام حجري بلا قلب. بلا عاطفة إنسانية تجاه مواطنيه.

نظام بشار يحب الفقراء. البائسين. العاطلين عن العمل. لذلك خلق منهم ملايين السوريين. الفرز الاجتماعي راح يفرض ذاته على الثلث الأخير من نظام الأب (التسعينات). تبلورت الهوة في الدخل والكسب. ليس فقط بين الطبقة الوسطى، وبروليتاريا الريف والمدينة الصغيرة، إنما أيضا بين الطبقة الوسطى والنخبة البورجوازية والأوليغارشية (الطُغمة) المهيمنة. أي بين الذين يملكون قليلا، والذين يملكون كثيرا. كثيرا.

ازداد تركيز الثروة في قبضة متمولي العائلة الحاكمة، كآل مخلوف والأسد، ومعهم رجال البزنس من السنّة والشيعة الذين يتحكمون بالغرف التجارية والصناعية. ويعرفون كيف يتهربون من دفع الضرائب إلى دولة نظامها بلا ذمة.

برزت احتكارات السلع التموينية الرئيسية. يديرها رجال النظام من عساكر ومدنيين. بات اسم كل من الضباط (العظام) العاملين والمتقاعدين مرتبطا بسلعة أساسية. كالسكر. السجائر. المحروقات ومشتقاتها. الإنترنت. الهاتف المحمول...

تشكلت شلل المافيات المخيفة التي تهيمن على الجمارك. الموانئ. وحركة الاستيراد والتصدير. وتفرض الاتاوات والعمولات الباهظة على عقود الشركات الأجنبية والأهلية. وهذه بدورها تحمّل السلع ما دفعت في مقابل تمريرها. فباتت السلعة أغلى بكثير من سعرها الحقيقي، فيما تراجعت الاستثمارات العربية والأجنبية، في هذا العام.

أتذكر هنا أن مفتشي المحاسبة كانوا، في الأربعينات والخمسينات، يثيرون الرجفة في أوصال الجهاز الإداري، عندما يدخلون وزارة أو مصلحة حكومية. سرحت حكومة حسن الحكيم، في نهاية الأربعينات، وكلاء الوزارات وأمناءها العاملين، لمجرد الشبهة. حتى الفساد المروع لم يكن شائعا أو معروفا، في عهود الوحدة مع مصر. والانفصال. و«كوميونة» صلاح جديد التروتسكية (1966/1970).

في عصر آل الأسد، مع انهيار النزاهة الإدارية. وغياب المحاسبة. والحرية. واستقلال القضاء، انهارت القيم الأخلاقية الرادعة، في الدولة. النظام. الحزب (القاعد). بل أتجرأ فأقول وفي المجتمع أيضا. بات الوزير أو الموظف النزيه عملة نادرة. ومتهما بالحماقة، إذا لم ينتهز المنصب لتكوين ثروة طائلة.

نظام العائلة هو الذي تسبب في هذه الكارثة التي أصابت الضمير الاجتماعي. كان الأب يشجع رجاله المدنيين. العسكريين. الأمنيين، على ممارسة الفساد، في سوريا ولبنان، لضمان ولائهم. في حالة نادرة تم تسريح وزراء. مصادرة أموال. لكن المحاسبة لم تطل قط «العيلة»، من أعمام وأخوال. وأصهار. وأقرباء بعيدين.

انتهز الابن الثاني نفوذه لدى أب مريض في آخر العمر، ليسرح رجال «الحرس القديم» في الطائفة. النظام. الحزب. الجيش، بحجة الفساد. لكن الفساد كان قد غدا المؤسسة النشيطة في دولة مشلولة. ومستنزفة.

ركز بشار هَمَّهُ على احتكار السلطة، بعد طول حرمان وإقصاء. بل دافع علنا عن «حق» الأقرباء في احتكار الاقتصاد. انتهاك القانون. والاحتيال على الدولة. واعترف بعجزه عن ملاحقة الأشخاص الفاسدين. قال إنها «مهمة المؤسسات»! لكن هذه المؤسسات كانت عاجزة حتى عن ذكر أسماء ذوي الشبهات.

لست أنا الذي أقول. أنقل هنا ما قالته صحيفة «تشرين» الحكومية، في تقرير نادر (نسبته إلى هيئة دولية لم تذكر اسمها). ونشرته في ملحقها الاقتصادي (5/4/2011): «صنف تقرير دولي سوريا كواحدة من أسوأ دول العالم في ميدان مكافحة الفساد وآليات المساءلة والمحاسبة... إن سوريا تعاني من ضعف في مجال الحكم الرشيد، وأطر مكافحة الفساد... وعدم وجود إطار قانوني يمكن العامة من الحصول على المعلومات».

مع غياب الحرس القديم، استيقظت غريزة الامتلاك في نفوس رجال بشار الجدد، من معاونين. وأقرباء. وضباط العيلة الذين زرعهم في الأجهزة الأمنية المخيفة. بات اللجوء إليهم، لحل شكوى أو ظلامة، نافذة مناسبة لهم لتقاضي عمولة أو رشوة.

في ظل ليبرالية طفيلية. متوحشة، فشلت خطط التنمية في تحسين مستوى المعيشة. غاب تخطيط الأسرة للحد من الكثافة السكانية (ثلث مليون طفل كل عام). ولتأمين العمل لثلثي مليون شاب وخريج سنويا. أخفق الإصلاح. ألحق بشار قبل أسابيع قليلة ألوف الحزبيين بجهاز الدولة. صاروا موظفين رسميين. يتحمل دافع الضرائب عبء إعالتهم. وجمودهم. وفسادهم!

ركَّزتُ على الفساد. فقد كان الأصل في الخلل الاجتماعي. وخلق الهوة بين الطبقات. ثم كان السبب غير المباشر في انفجار الانتفاضة. وحدهم سكان الريف المحرومون. البائسون. المتعطلون، احتفظوا بالبراءة. لم يكن لديهم ما يرشون به نظاما. ويأملون منه خيرا. وليردوا عنهم وطأته. وثقل مطرقته الأمنية.

بدلا من أن يذهب بشار ليواسي أهل أطفال الغرافيتي (الكتابة على الجدران)، كانت المفاجأة مواجهة الاحتجاج بالرصاص. بالإذلال. بالاعتقال. باتهام المحتجين بتأجيج «الفتنة»، ونَسْبِ الانتفاضة إلى «مؤامرة» خارجية. مع نظرية المؤامرة، انهارت إمكانية الحديث عن إصلاح. عن حوار. عن مصالحة بين الشعب وبشار ونظامه. وعن تلافي الهوة بين الطبقات.

اغتيال البراءة الإنسانية لا يتم على صعيد وطني فحسب. وجد جورُ النظام أقرباء وشركاء، على صعيد إقليمي (شيعة إيران. والعراق. ولبنان). ثم على صعيد دولي، في روسيا التي لم تتأصل فيها، بعد، مبادئ احترام حقوق الإنسان. والصين التي سرّحت ماركسيتها الماوية المناصرة للشعوب المضطهدة.

هذا النظام إلى سقوط عاجل. أو آجل. كل ما أخشاه أن تعجز القوى البديلة المدنية أو المسلحة عن استعادة البراءة. ونزاهة التعامل الأخلاقي على مستوى يومي. ثم تعميق الإيمان بعروبة ديمقراطية، كأداة للمساواة الوطنية والاجتماعية، ولحل مأزق الصراع الاجتماعي، وللسمو فوق الانتماء الطائفي. إننا نفتقد البراءة في هذا العالم حولنا. المشكلة أننا نحن أيضا لسنا أبرياء تماما.