الثوار الطيّبون والفوضى السياسية!

TT

لا يهم في قراءة الأحداث الوقوف طويلاً عند الفاعل، فتلك مسألة جنائية بحتة تخضع لتوفر المعلومات ودقتها، وهو عادة أمر في غاية الصعوبة، لا سيما في أزمنة الفوضى وأجواء غياب السلطة الفاعلة على الأرض، الأهم في قراءة أحداث السرقة والنهب والاعتداء «البلطجة»، التي أصبحت بشكل يومي في مصر؛ هو البحث عن « المعنى» الكامن ورائها؛ فمجرد القاء التهم على المجلس العسكري أو الفلول أو حتى قوى خارجية ليس إلا محاولات لابتزاز المشهد السياسي غير المستقر؛ نحو مزيد من الفوضى. وإذا كانت الفوضى الأمنية قد يطول مداها إلى أجل لا نعلمه، إلا أن مسبّباتها هي ما يجب الحديث عنده وأبرزها هي فوضى «سياسية»، الفوضى في الأفكار لا تنتج بالضرورة اختلالاً أمنياً؛ لكنها تساهم في بقاءه وتضخمه لأنه ببساطة تجنح إلى إشاعة أفكار مضللة لا علاقة لها بالواقع.

وبكل أسف يمكن القول أن أكثر تيار أو فصيل سياسي مصري منتج لهذه «الفوضى الفكرية«؛ هم وقود الثورة وأنقياؤها وعصارتها الذين ضحوا بكل شيء؛ في حين أنهم لم يحصلوا على أي شيء، فالتيار العريض من الشباب الذي اصطلح علي تسميته « شباب الثورة « وهو لا يمكن حصره فقط في حركة إبريل؛ بل يشمل شخصيات بارزة كالدكتور البرادعي، وشخصيات مستقلة أخذت حظها في التغيير السياسي الذي أفرزته الانتخبات، كله هؤلااء كانوا ولا زالوا أحد أهم تناقضات «الثورة المصرية « وأكثرها تضحية وضحايا.

وإذا كان الطريق للجحيم مفروش بالنوايا الحسنة؛ فإن الأكيد أن الطريق إلى جحيم السياسة هو لمن يمارسها بمثالية الثوار التي تشعل حماسة لكنها لا يمكن أن تخمد فتنة، فضلاً أن تملأ فراغاً سياسياً، أو أن تكون بديلاً للتغيير في ظل وجود قوى سياسية لها امتداداتها الاجتماعية الطويلة كالإخوان أو السلفيين، أو حتى قوى سياسية أخرى تملك على الأقل حظاً من الدهاء السياسي؛ الذي يؤهلها للدخول في تحالفات مع القوى الفاعلة.

ساهم «الثوار» الطيبون بداية في القطيعة مع المجلس العسكري، وضغطوا عليه للاستفتاء على تعديل الدستور، ثم انقلبت نتائجه سلباً عليهم وعلى الثورة، وثاروا ثانية للتعجيل بالانتجابات البرلمانية؛ فكان ما كان من سقوط مدو، ووضع السلطة في طبق على الطريقة الإسلامية، والآن يريد «الطيبون« الضغط على المجلس العسكري بضرورة نقل السلطة في أقرب وقت وهي مع احترامي لكل المبررات المثالية التي تساق أقرب إلى الحماقة السياسية التي يمكن أن تقود الحالة السياسية إلى المجهول.

في النهاية شئنا أم أبينا سيسعى الفائزون بكعكعة السلطة إلى الضغط على المجلس العسكري عبر تحالف وثيق بدت معالمه؛ على أن يجدد الإخوان شرعية المجلس بتعرية الثوار، وتصويرهم كخوارج ومفسدين ومخربين، بينما لا يمكن للمجلس العسكري كجزء من دوره وهويته التاريخية إلا أن يكون بجانب السلطة حيث يدين بولاءه للدولة والتي ستؤول في النهاية إلى الإخوان إذا ما اعتبرنا أن السيطرة على الدولة إذا لم يتم بشكل دستوري؛ فهو يمكن أن يتم من خلال التحالفات والضغط على المؤسسة العسكرية لا سيما وأن هم « العسكر « في كل التجارب الثورية الحفاظ على مصالحها ومؤسساتها، وليس إصلاح الشأن العام أو الدخول في مهاترات حول بقية مؤسسات الدولة من أجل مجموعات من الثوار يوماً بعد يوم تفقد وهجها، ويتم التأليب عليها؛ كلما استحضر العقل الجمعي الكارثة الاقتصادية التي تقف البلد عليها.

من جهة أخرى فإن الشارع المصري؛ إذا اعتبر أنه يقف على الحياد بين كل النخب، لا يقف سوى عند الخطوط العريضة للسياسة، لكنه غير مشغول بالتفاصيل؛ وإنما بتغير الحال الذي لا يتقدم، كما أن نظريات المؤامرة ومحاولة إلقاء التهم في كل حدث على الفلول أصبح غير مجد، كما أن مجرد الركض وراء خيوط الدخان في تلك النظريات سيقودنا إلى تناقض حتمي، أقرب مثال لذلك كل مبادارات نقل السلطة التي تقدمت بها مجموعات من النشطاء والثوار والمفكرين الذين ليس لديهم ثقل على الأرض، وبالتالي لم ةلت يكون لهم أي حظوظ في الفوز في أي انتخابات، هذه المبادرات تكشف عن خلل عميق في فهم طبيعة التحالفات السياسية، فهم من قالوا بعد غياب الإخوان التكتيكي عن المليونيات ومن ثم فوزهم الساحق في نتائج الإنتخابات بأنهم باعوا الثورة للمؤسسة العسكرية، لكنهم الآن وعبر هذه المناشادات يطالبون بضرورة تسليم السلطة لمجلس الشعب المنتخب، وهو بعبارة أخرى بائعوا الأمس.

الأكيد أن هذه «الفوضى» السياسية ليست بسبب نقص الكفاءة أو قلة التحصيل؛ بل على العكس لربما كان شباب الثورة والشخصيات المستقلة الأكثر حضوراً على المستوى الإعلامي في التحليل والقراءة والفهم، لكنها نتيجة عاملين أساسيين: الأول هو نقص التجربة السياسية كممارسة، والأمر الثاني عدم فهم طبيعة الحركات الشمولية وأبرزها تيارات الإسلام السياسي.

وإذا عدنا لذات المثال وهو المطالبة بنقل السلطة بالكامل لمجلس الشعب، فلا يمكن تفسير هذه المطالبات في أحسن الأحوال إلا أنها رهان على «اعتدال« الإخوان، ومحاولة إحراجه بجميلة تسريع تقديم «كعكعة السلطة» في قالب سياسي. الإشكالية هنا ليست في القبول بالإخوان ووصولهم الدستوري للسلطة، فهذا جزء من القبول بنتائج الديمقراطية الأداة حين تلعب خارج أرضها وجمهورها، لكنه يجب أن لا يتحول إلى مبدأ شراكة سياسية في ظل نكوص الجماعة عن وعودها بعدم الانفراد بالسلطة، كما أن كثيراً من المؤشرات حول طريقة التعامل مع الثوار الآن تقودنا إلى تأسيس جديد للشمولية الديمقراطية لكن بنكهة الإخوان، وهو ما يذكرنا بالتاريخ الذي يبدو أنه يقرأ الثوار بشكل انتقائي، التجربة الشمولية في أوروبا وأكثرها طغياناً «النازية» كان ينظر لها بشكل أو بآخر بانها حركة ستضطر إلى الاعتدال متى ما وصلت إلى الحكم بآليات انتخابية عادلة.

هذا بالطبع لا يعني أن الإخوان هم نازيوا الحالة المصرية؛ كما أنه لا يلغي التحولات التي تعيشها الجماعة، وهي أكثر جدية في الانشقاقات التي يقودها تيار الحمائم سابقاً، إلا أن الرهان على الاعتدال لا يمكن إلا بالضغط السياسي على الجماعة ومساءلتها نقدياً حول أفكارها ووعودها، وليس الضغط على المجلس العسكري.

وكما أن الرهان على الاعتدال هو جزء من «الغيب« السياسي الذي لا نعلمه، فإن الرهان على فشل تجربة الإسلاميين وعلى رأسهم الجماعة الأم هو جزء من «الفوضى السياسية « الناتجة عن سوء فهم لطبيعة الحركات الشمولية، ذلك أن الفشل الاقتصادي يمكن تبريره بقصص وأحابيل المؤامرات الداخلية والخارجية لإطفاء «نور» الحق؛ إضافة إلى تضخيم الملف المالي للنظام السابق، وهو ما لا يعكس الحقيقة بالأرقام، وصولاً إلى افتعال أزمات خارجية تلهي عن المساءلة للأداء السياسي في الداخل، يمكن مراجعة تطبيقات حيّة لكل ما سبق في تجربة الثورة الإيرانية التي يمتدحها الإخوان رموزاً وقادة بمناسبة وغير مناسبة.

وللحديث بقية.

[email protected]