الصين.. بين الخوف والعجرفة

TT

«عملاق اقتصادي ولكن قزم سياسي»، هذه هي التسمية التي يلحقها بعض الدبلوماسيين بجمهورية الصين الشعبية.

إن قرار الصين الأخير بأن تحذو حذو روسيا باستخدام حق الفيتو في رفض مشروع قانون بشأن سوريا، بدلا من طرح سياستها الخاصة في هذا الشأن، جعلها مرشحة لهذه التسمية.

وليست هذه هي المرة الأولى الذي تستخدم فيها هذه التسمية في وصف قوة اقتصادية رئيسية عاجزة عن أن تلقي بثقلها في المحافل السياسية الدولية.

في أواخر القرن التاسع عشر، ألحقت هذه التسمية بالولايات المتحدة، التي ظهرت، منذ ثمانينات القرن التاسع عشر، كأكبر قوة اقتصادية في العالم، فيما كان تأثيرها العالمي شبه منعدم.

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، فشلت كل من ألمانيا الغربية واليابان في لعب دور سياسي يتوافق وثقلهما الاقتصادي.

لكن، ألن تكون تسمية «قزم سياسي» تسمية خاطئة في رأي نحو خمس البشرية؟

إن الصين رابع أكبر دولة في العالم وتحتل المرتبة الثالثة في إجمالي الناتج المحلي. وتأتي في المرتبة الثالثة من حيث الصادرات، كما ظهرت على السطح كأكبر مستورد للنفط الخام.

وبحوزة الصين أوراق أخرى مهمة أيضا. فهي تملك ثالث أكبر احتياطي نقد أجنبي في العالم، فيما لم يتجاوز إجمالي حجم دينها العام نسبة 20 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي. (في حين تبلغ نسبة الدين العام الأميركي 110 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي، وتبلغ نسبة الدين العام في اليابان نحو 200 في المائة).

وفي ما يتعلق بالدفاع، تعتبر الصين واحدة من الدول العشرين الأعلى إنفاقا، حيث تخصص نسبة خمسة في المائة من إجمالي ناتجها المحلي للجيش.

ومع ذلك، فإنه في السياسة الدولية، تذكر صورة الصين بصورة القطة المشمشية في رواية «أليس في بلاد العجائب»، التي تختفي وراء ابتسامة مبهمة. إذا ما ذكرت أي موضوع، فليس من المحتمل أن تجد موقفا صينيا موحدا. في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، نادرا ما تتجاوز الصين نطاق التصريحات الكونفوشيوسية الغامضة، أو لنقل التصريحات «المحيرة». وبشأن التصويت، تتبع الصين نهج روسيا مثلما تبع الحمل الصغير مريم العذراء.

تعتبر الصين واحدة من القوى الخمس التي تتمتع بحق الفيتو في مجلس الأمن. وقد استخدمت حق الفيتو ست مرات فقط، حذت حذو روسيا في خمس مرات منها.

إذن، لماذا تتصرف الصين على هذا النحو؟

السبب الأول أن الصين ظهرت على السطح مؤخرا، فقط من قرن، سيطرت عليه القوى الغربية والحروب الأهلية والثورات، والأهم، الثورة الماوية. إن أية أمة تحتاج لوقت لتقدير قوتها وتحديد مصالحها وحشد الوسائل الضرورية للتعامل معها.

على مدار عقود، كانت السياسة الخارجية للصين الشيوعية مبسطة، مع أنها لم تكن بسيطة، ممثلة في السعي لتأمين النظام الماوي وكسب الاعتراف الدولي بها وعزل تايوان. وعلى طول الطريق، انجرفت الصين إلى سلسلة من المغامرات الأجنبية، التي غالبا ما كانت ضد رغباتها.

وعلى الرغم من إصلاحات دنغ شياو بينغ، ما زالت الصين تفتقر إلى المعرفة الفنية، إلى الموارد البشرية والاتصالات المطلوبة لوضع استراتيجية عالمية. وهي تعمل في كل مكان تقريبا كقوة وضع راهن، متجنبة دور مثير المشاكل تحت قيادة ماو. وفي حالة الشرق الأوسط الكبير، ثمة عدد محدود من الدبلوماسيين الصينيين الذين أتقنوا لغات المنطقة، بل ولم يفهم الثقافات المحلية سوى عدد أقل.

وفي معظم الحالات، أتت مبادرة توثيق العلاقات من جانب دول شرق أوسطية. وتحاول العديد من الدول العربية ربط السوق الصينية بصادراتها من النفط والغاز. وقد ظهرت إيران كمستورد رئيسي للأسلحة الصينية. وحتى إسرائيل، التي يحدوها القلق من خسارة الدعم الأميركي تحت قيادة الرئيس باراك أوباما، اكتشفت الصين على حين غرة.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الصين تعرقلها بدرجة كبيرة دول الجوار، على النحو الذي لا تملك معه الوقت والطاقة لبسط نفوذها في مناطق أخرى.

وباستثناء باكستان، فإنه لا تملك أي من دول الجوار الأربع عشرة للصين حدودا واضحة مع جمهورية الصين الشعبية. وتحتل الصين أراضي تدعي ملكيتها العديد من دول الجوار، من بينها الهند وفيتنام. في المقابل، كانت أجزاء ضخمة من الأراضي الصينية واقعة تحت الاحتلال الروسي منذ ستينات القرن العشرين. وبعيدا عن مطالبة الصين بضم تايوان، فإنها طرف في نزاعات إقليمية، معظمها حول جزر، مع اليابان والفلبين وماليزيا وبروناي، إلى جانب دول أخرى.

بعبارة أخرى، لدى الصين ما يكفيها من المشكلات بما لا يمنحها الوقت للتفكير في البحث عن حلول لمشكلات شعوب المناطق الأخرى.

ويتمثل سبب آخر في عدم ظهور الصين على المستوى الدولي في الفهم غير الناضج من جانب قادتها لمفهوم الماركسية. ونتيجة اقتناعهم بأن تلك القوة الاقتصادية هي أساس القوة السياسية، فقد سعوا لنمو اقتصادي سريع، على نحو يخلط الفهم بين النمو والتطوير. وهم يعتقدون أيضا أنه لا توجد أمة يمكنها أن تمارس نفوذا كبيرا من دون قوة عسكرية. ولهذا، على مدار العقدين الماضيين، ضاعفت نفقاتها العسكرية، مع بذل جهد كبير لتشكيل أسطول بحري في المياه العميقة.

إن السياسة الصينية صممت للتعامل مع ثلاثة مخاوف.

الأول هو الخوف من احتمال أن يحدث لجمهورية الصين الشعبية ما حدث للاتحاد السوفياتي. إن الضغوط العرقية لها تأثير غريب في إحداث توترات اجتماعية. وفي كل شهر، تمثل الصين ساحة لآلاف الاعتصامات والإضرابات والنزاعات الصناعية وثورات القرى، إلى جانب مواجهات أخرى ضد نظام مركزي.

أما الخوف الثاني، فهو خوف الصين من التعرض لهجوم من دولة أجنبية. ويمكن أن تتمثل تلك الدولة في روسيا أو اليابان أو الهند أو الولايات المتحدة. حتى أن دولة تايوان الصغيرة يمكن أن تتجه لشن هجوم حيثما يحدث اضطراب على أراضيها.

أما موطن الخوف الثالث، فيتمثل في نفاد أشياء مثل الغذاء أو الطاقة أو الوسائل التكنولوجية، أو حتى الماء والأراضي الصالحة للزراعة. فما زالت ذكرى المجاعات التي راح ضحيتها عشرات الملايين في عهد ماو حية في أذهان الكثيرين.

لهذا السبب، تشتري الصين أراضي زراعية بمختلف أنحاء العالم، فيما تبحث بحثا دؤوبا عن مصادر جديدة للنفط والغاز.

وقد تفاقمت تلك المخاوف بفعل العجرفة التي استمدتها الصين من نموها الاقتصادي.

لتولي دور قيادي في العالم، تحتاج أية قوة لثلاثة مقومات: اقتصاد متقدم وجيش قوي وثقافة جاذبة. واليوم، لا تملك الصين أيا من تلك المقومات. لقد بنت ألمانيا الغربية واليابان اقتصادات متقدمة، لكنهما عجزتا عن تأسيس قوة عسكرية، في الوقت الذي لم تحقق فيه ثقافتهما شعبية عالمية. ولقد شكل الاتحاد السوفياتي آلية عسكرية قوية، لكنه فشل في بناء اقتصاد حديث. وعلى الجانب الثقافي، جذب فقط قطاعات منتمية لتيار اليسار.

إذا نجحت الصين في التحول من نظام شيوعي إلى نظام أكثر تعددية، ربما تسنح لها فرصة جيدة للعب دور قيادي. لكن ربما يستغرق ذلك أعواما، إن لم يكن عقودا. في الوقت نفسه، لا يجب أن يتوقع أحد أن تلقي الصين بثقلها في أية قضية رئيسية.