لم تكن صهيونيته مزحة

TT

كان الزميل الراحل نبيل خوري على كثير من الظرف، وكان دائما على عجل لكتابة المقال التالي أو الذهاب إلى السهرة التالية. وذات مساء، في «الصياد»، تعذرت فكرة المقال واستعصت، وفجأة لمح أمامه مجلة عليها صورة الممثل مارلون براندو، فسارع إلى الورقة والقلم وكتب «امنعوا أفلام هذا الصهيوني»، ومع صدور المقال اتصلت جمعية مقاطعة إسرائيل بدار «الصياد» وسألت عن صهيونية براندو، وكان من الصعب الرد بأن المسألة لا تتعدى أن نبيل خوري تأخر على السهرة ولم يجد أمامه سوى براندو يطالب بمنعه.

ظل الزميل الظريف يروي الحادثة ويسلي بها جلساءه، خصوصا عندما لا يجد طرفة أخرى. وقد أعدت رواية الحكاية قبل سنوات عندما لم أجد زاوية أخرى، والآن لدي موضوع زاوية مهم وليت نبيل خوري كان حيا، وجمعية مقاطعة إسرائيل على قيد الحياة: يروي كتاب «خط في الرمل» الآن أن «التحالف الأميركي لدعم إسرائيل» دبَّر العام 1948 مسرحية بعنوان «ولادة علم» تحكي قصة قيام إسرائيل، وكيف وصل ضحايا معسكرات الاعتقال إلى فلسطين.

بطل المسرحية، ديفيد، لم يكن سوى مارلون براندو، الذي يخاطب الحاضرين في نهاية المشهد الأخير قائلا: «أين كنتم آنذاك؟ كنتم تخجلون بالاعتراف بأنكم يهود. اللعنة على صمتكم. والآن قلوبكم ترتجف قليلا. تبرعوا بدولار من أجل يهود أوروبا. شكرا. شكرا». جمعت المسرحية آنذاك 400 ألف دولار. لم يصف نبيل خوري مارلون براندو بالصهيوني بل رفعت إليه التحية الجمعيات الصهيونية في نيويورك.

كان اطلاع الصحافة العربية على الحركة المسرحية في نيويورك آنذاك معدوما، ولو أن براندو ظهر في فيلم لكانت أنباؤه وصلت إلى العالم العربي ولو عن طريق الموزعين، لذلك، طفقنا في لبنان ومصر والعراق نحضر أفلام براندو الذي كان منذ الخمسينات ألمع وجوه هوليوود وأحد أكثرها وسامة، وبقي أمر المسرحية والتبرعات مجهولا، وكانت جمعية مقاطعة إسرائيل محدودة الإمكانات أيضا وليس لها مخيلة نبيل خوري، الذي لم يكن مارلون براندو الضحية الوحيدة التي وقعت بين موعد السهرة وموعد تسليم المقال إلى المطبعة. وكان من عادة الصحافيين الظرفاء إذا تعثرت المخيلة أن يكتبوا ردا عنيفا على مقال سابق لهم، بتوقيع مستعار، وكان الأصدقاء منهم يتفقون على شن حملات على بعضهم البعض، كل في صحيفته، على أساس أنها وسيلة لزيادة التوزيع في الصحيفتين. ولعل ألطف المساجلات المدبرة سلفا جرت في السبعينات بين عاصي الرحباني وجورج جرداق وامتدت أسابيع (يا دجاجة قاقي قاقي وبيضي على جورج بن جرداق). وأخبرني شاعر «هذه ليلتي» بعد سنوات طويلة أن عاصي كان يطلب منه نقد شقيقه منصور، في نواح يريد تصليحها فيه، فيتظاهر عاصي في الرد بالدفاع عن شقيقه، مؤنبا جرداق. وكان أكثر من تمتع بتلك «الإخوانيات» الموسيقار محمد عبد الوهاب.