الذهاب إلى الهاوية دون الوقوع فيها!

TT

في نوفمبر 2010 أجرى الرئيس السابق حسني مبارك، آخر انتخابات برلمانية في عهده، وحين يعود المرء إلى الأجواء السياسية التي سبقت تلك الانتخابات، فسوف يلاحظ بسهولة، أنها أجواء امتلأت بضغوط دولية، بشكل عام، وأميركية، بشكل خاص، على القاهرة، من أجل أن تسمح بوجود رقابة غربية على العملية الانتخابية ضمانا لنزاهتها!

ولم يكن نظام الرئيس السابق يناقش أصلا في إمكانية قبول رقابة من هذا النوع على انتخاباته، وإنما كان يرفضها من أساسها، ويراها تدخلا في شؤون مصر، لا يجوز، ولا يليق به، كنظام حاكم، أن يقبل به!

ولم يكن أحد يدري، أن تلك الانتخابات، من حيث نتائجها، التي أعطت الحزب الوطني الحاكم وقتها، 97 في المائة من إجمالي مقاعد البرلمان، سوف تكون آخر مسمار في نعش نظام مبارك، رغم أنها، لو كانت قد جرت في أجواء شبه حرة، ولا نقول أجواء حرة كاملة، لكانت قد أنقذته، كنظام حاكم، مما آل إليه بعدها، ولكن هذا، على كل حال، هو ما حدث!

وفي كل الأحوال، فإن أركان النظام كانوا جميعا، في ذلك الوقت، يؤكدون في كل مناسبة، أن الانتخابات سوف تكون حرة، ونزيهة، ومعبرة عن إرادة الناخبين.. وكان أي عاقل يتابع تأكيدات كهذه، لا بد أن يتساءل في حيرة: إذا كانت الانتخابات سوف تكون بهذه الأوصاف، فلماذا، إذن، تخافون من الرقابة عليها، سواء كانت رقابة دولية، أو حتى محلية؟!.. إذ المعروف أن تعديلا دستوريا كان قد جرى، بعد انتخابات 2005 بما أبعد القضاء المصري، عن ممارسة أي رقابة من أي نوع، على أي انتخابات تالية!

وكان الغرب كلما ازداد ضغطا في اتجاه فرض رقابة دولية على الانتخابات المصرية، ازدادت القاهرة تمسكا برفضها، أيا كان الثمن، وأيا كانت العواقب!

ولم تكن المسألة على بعضها في حاجة إلى جهد كبير، لكي يدرك متابعوها، أن القاهرة عندها ما تُخفيه في انتخاباتها.. وإلا.. فماذا يخيفها من الرقابة، إذا كانت العملية الانتخابية سوف تكون فعلا، كما كانت توصف به في تلك الأيام؟!.. وكان واضحا، على الطرف الآخر، أن الضغط الأميركي الغربي، في هذا الاتجاه، لم يكن جادا بما يكفي، وإنما كان يضغط من أجل تحقيق مصالح محددة له، مع مصر، وليس من أجل عيون ديمقراطية يريدها فيها، ولو أن أحدا كان يصدق أن الضغوط في هذا الاتجاه، تنشأ أو تستمر من أجل إقامة ديمقراطية حقيقية في مصر، أو في غيرها، فإنه يكون واهما!

انقلبت الحال، هذه الأيام، وصارت القاهرة تمارس ضغوطا على واشنطن، والعواصم الغربية الحليفة لها، في سبيل إقرار رقابة على أرض مصر، وهي رقابة ليست هذه المرة على صناديق اقتراع، وإنما على منظمات مجتمع مدني، تتلقى تمويلا من الولايات المتحدة، ومن دول أوروبية، وتقول التحقيقات الأولية، التي أجراها قضاة تحقيق متخصصون حولها، إن هذه المنظمات تتلقى تمويلها لتحقيق أهداف تضر بالسيادة الوطنية المصرية، وبالتالي، فلا بد من كشفها، ووقفها عند حدها، وهو الأمر الذي أدى إلى إحالة 42 من العاملين فيها، بينهم أميركيون وأوروبيون، إلى محكمة الجنايات المصرية.

ولو أنك قارنت بين ما كان قائما، من ضغوط، قبل انتخابات 2010 وبين ضغوط اليوم، التي تريد القاهرة بها أن تخضع منظمات المجتمع المدني للقانون الوطني، فسوف تجد نفسك أمام السؤال نفسه: إذا كانت منظمات كهذه لا تمارس ما يجرمه القانون المصري، وإذا كانت تعمل في النور حقا، فلماذا يخشى ممولوها الرقابة عليها، اللهم إلا إذا كان لديها هي الأخرى ما تريد أن تخفيه.. تماما كما كانت الحال في وقت انتخابات آخر برلمانات مبارك!

كل طرف، إذن، عنده في حالته ما يخفيه، وكل طرف يقاوم الرقابة، لأسباب تخصه، وإذا كانت معركة تمويل منظمات المجتمع المدني، قد تصاعدت إلى حد تقرر معه منع نجل وزير النقل الأميركي، من السفر، لاتهامه ضمن آخرين في الملف إجمالا بممارسة نشاط يضر بالمصلحة الوطنية المصرية، فإن لعبة «عض الأصــــــــــابع» بين القـــــــاهرة، من ناحية، وواشنطن ومعها عواصم غربية من ناحية أخرى، لا تزال تتواصل حتى كتابة هذه السطور، ويبدو، من خلال ملامح التصعيد على الجانبين أن بينهما شعرة معاوية الشهيرة، التي كان صاحبها يقول عنها، إنهــــــــا ممدودة طوال الوقت بينه وبين النـــــــاس.. إذا شدوها، أرخاها هو.. وإذا أرخوها هم، شدهــــــا هو من نـــــــاحيته، وهكذا تظل الشعرة قنــــاة اتصــــال لا تنقطــع.

الذين يمارسون الضغوط، في الحالتين، سواء حالة الانتخابات في 2010 أو حالة المنظمات في 2012 يمارسونها باعتبارها - في جانب منها - أوراقا في أيديهم، يلعبون بها، على الطاولة، لتحقيق مكاسب سياسية، أو اقتصادية، ولذلك يظل مبدأ «حافة الهاوية» الذي اخترعه «دالاس» وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هو الحاكم في اللعبة كلها دائما.. كان هذا المبدأ يحكم العلاقات بين القطبين الأميركي والسوفياتي، وقت الحرب الباردة، وكانت مقتضياته، كمبدأ، تقول بأن الظروف إذا أرغمت الطرفين، على الذهاب إلى الهاوية، فإن عليهما أن يحرصا كل الحرص على ألا يقعا فيها، وهو ما كان يحدث مرارا، وفي كل وقت.. وإذا كان قد قيل مؤخرا، إن نوابا في الكونغرس الأميركي، قد هددوا بقطع المساعدات الأميركية عن القاهرة، إذا استمرت في ضغوطها على المنظمات إياها، فإن الإدارة الأميركية قد قررت، في اللحظة نفسها، أن تبعث برئيس الأركان الأميركي، إلى القاهرة، ليحتفظ بالأمور عند حافة الهاوية، ويمنع الوقوع فيها!