كم عدد أصابع السفير؟

TT

كأن لغة الإعلام والسياسة لدى دولة القذافي البائدة، وصدام حسين المبادة، وبشار الأسد التي ستبيد، كُتبت بحرف واحد، هو الحرف المسماري الدموي، الغليظ.

من قرأ تصريحات مندوب سوريا لدى الجامعة العربية، يوسف الأحمد، حول قرارات الجامعة العربية الأخيرة، يشعر بالدهشة من حجم المغالطات، والعيش في عالم آخر غير العالم الذي نعيش فيه، العالم كله يكذب، والكاميرات كلها مفبركة، والثوار كلهم ليسوا إلا قتلة، والعرب كلهم ليسوا إلا خونة، حتى تركيا أردوغان، صديقة الأمس القريب، ليست إلا عميلة لأوروبا والغرب ضد سوريا الأسد الصامدة.

حالة من الهذيان الثوري الهستيري تسيطر على الخطاب السوري الرسمي؛ فحينما تجعل العالم كله يتآمر عليك، وتكذِّب الجميع، حتى ما تراه العين وتلمسه اليد، يصبح مطلوبا منك أن تتعامى عنه وتصدق فقط شريف شحادة، وريث هالة المصراتي الليبية في الإعلام، هنا تصبح أمام حالة مرضية متقدمة جدا، وهي «تنويعات» على ما كان يقدمه لنا أبواق صدام حسين في العراق، مثل الرجل الظريف محمد سعيد الصحاف، صاحب كلمة «العلوج» الشهيرة، وتقطيع أوصال الأفعى. ومثلهم أبواق النظام السوري في لبنان، مثل ناصر وغالب قنديل، وجوزيف فاضل، والرجل الأعجوبة وئام وهاب، ومثلهم أبواق إيران وحزب الله، من صادق الحسيني إلى نواف الموسوي.

لكن من نكات السفير السوري قوله، من منزل صديقه الإيراني في القاهرة، عقب قرارات الجامعة العربية مؤخرا: إنه لا يوجد أصلا منشقون من «الجيش العربي السوري»، بل مجرد فارين من الخدمة، وإن هؤلاء الفارين قلائل، يُعدون على أصابع اليد الواحدة، نعم الواحدة، وليس اليدين، وإن هؤلاء هم من يسمى «الجيش السوري الحر»!

كيف تفهم مثل هذا الكلام العجائبي؟ إذا كانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة، فهذا يعني أنهم لا يتعدون 5 أشخاص، وهذا يعني أن كل «الجيش الحر» ليس بهذه القوة التي يتحدث بها عن نفسه، أو ليست «العصابات» المسلحة، التي يتحدث عنها النظام، بهذه القوة المسلحة، التي تكفل لها السيطرة لبعض الوقت على بلدة الزبداني، ومواقع من حمص وغيرها من المدن السورية.

هل معنى هذا أن الذي يقاتل في حمص وإدلب وجبل الزاوية ودرعا ودير الزور ليس إلا مجرد 5 أشخاص، حسب حسبة السفير الخطير؟!

هل بلغ الهوان والعجز والهلع بالجيش العربي السوري أن يجند دباباته وقواه كلها لمحاربة 5 أشخاص، حسب أصابع السفير السوري على اليد الواحدة؟

هل يملك السفير أصابع غير أصابع البشر العاديين؟ نحن نسمع عن عشرات الآلاف في عداد «الجيش السوري الحر»، أو العصابات، كما يسميها النظام، يكفي فقط أن نحصي عدد الذين يعلنون انشقاقهم، أو فرارهم، حسب كلام السفير الخطير، علنا، على شاشات الفضائيات ومواقع الإنترنت، عدا من لا نعرفهم أو ينشقون سرا، لنرى مئات المنشقين، فهل هؤلاء يدخلون في حسبة السفير الخطير وأصابعه على اليد الواحدة؟!

الحق أن هذا الخطاب المغالط والمكذب للجميع هو شيمة معروفة لدى الخطاب الإعلامي السلطوي العربي لهذه الأنظمة التقدمية.. لقد كان القذافي وهالة المصراتي والشيخ المشعوذ على الشاشة الليبية يمارسون الكذب والتضليل ومغالطة الواقع، حتى سُحب القذافي عاريا في شوارع سرت وقُتل، ومثله ابنه المعتصم، وقبض على سيف الإسلام وبُترت أصابعه، وكذلك الأمر مع صدام حسين وأولاده، وكذلك الأمر سيكون مع بشار الأسد، بشكل أو بآخر. وهذا السلوك ليس حصرا بهؤلاء، فلدينا أشكال متنوعة من التضليل الإعلامي، خذ لديك خطاب السيد حسن نصر الله الأخير، وحجم المناورات والمغالطات التي تحدث بها، تهوينا من مجزرة حمص، وتكريرا لدعاية الإعلام السوري الرسمي، وكأن السيد «رفيق» في حزب البعث العربي الاشتراكي، المنضوي في عالم ولاية الفقيه بدوره!

الإعلام، كما قال من قبل أيمن الظواهري، هو جزء من الحرب والجهاد المطلوب؛ لذلك نرى أن القذافي، وبعده بشار الأسد، ركزا بشكل كبير على مهاجمة الإعلام، وأنه من صنع المشكلة والأزمة، وأنه لا توجد مشكلة حقيقية على الأرض، وأن ما يجري هو مجرد عرض بسيط يمكن علاجه بمسكنات وعلاجات خفيفة، لكن الإعلام هو من يضلل، ويضخم ويصنع المشكلة، لتصبح الأزمة، من منظور النظام، هي في مكافحة الإعلام وملاحقته، بل وتضليل الإعلام نفسه من خلال صنع أخبار كاذبة ووضع فخاخ له، ليقال لاحقا: أرأيتم كيف يكذب الإعلام؟! في ممارسة مراهقة من الطراز الوضيع.

المشكلة الحقيقية ليست في الإعلام، الإعلام قد يضخم أمرا ما ويمارس دعاية ما، لكن ما لم توجد الظروف الموضوعية لنجاح هذه الدعاية ونجاعة هذا التضليل والتضخيم، فلن ينجح الأمر.. أصول المرض والداء موجودة في الجسد السوري نفسه، وليس في مرآة الإعلام الذي صار هو صانع المشكلة وصار هو المطلوب منه الحل في الوقت نفسه!

من يشاهد الضيف السوري الدائم على شاشات الفضائيات، شريف شحادة، من دمشق، وهو يكرر خطاب النظام الرسمي وروايته المعتمدة حول الأزمة السورية، يدهش لحجم العناد والإصرار في تكرير جملتين لا ثالث لهما، بأشكال متعددة: الإعلام يكذب ويفبرك الأحداث، والنظام يفرض الأمن ويلاحق العصابات. مهما قيل له، مهما عُرض أمامه من صور وأخبار، مهما أُثبت له بالدليل القاطع أنها صور غير مفبركة، وحديثة، ولضحايا مدنيين أبرياء، أطفال وشيوخ ونساء، يظل يردد، في حالة غيبية، هاتين الجملتين.

إنها حالة الغياب العقلي والنزعة النقدية لدى الذهن المنتج والمتلقي في الفضاء العربي العام، وهي، كما قلنا، مشكلة عميقة تتجاوز الحالة السورية والعراقية والليبية، والإيرانية، إنها مشكلة تتصل بضمور النزعة النقدية لدى سكان هذه المنطقة من العالم في الممارسة الإعلامية والثقافية، وهي من هنا تصبح خطيرة؛ لأنها مرشحة للتكرار مجددا مع الحكام الجدد والثوار الجدد في كل مكان.

من هنا لا نقول إن ما يجري في منطقتنا هو «ثورة» بالمعنى الثقافي العميق، ما لم يتم الاشتغال والحفر في مكونات هذا البناء المرضي العضال.

على كل حال، أتمنى، قبل الختام، أن يشهر لنا السفير السوري في الجامعة العربية كفه اليمنى أو اليسرى لنعد أصابعه، ربما كان يقصد أمرا مختلفا.

[email protected]