الدم الغالي

TT

تروي إحدى السيدات قائلة: منذ عدة سنوات عندما كنت أعمل متطوعة في مستشفى، علمت أن فتاة صغيرة تعاني من مرض نادر وخطير وفرصتها الوحيدة في العلاج بدت في نقل دم لها من أخيها البالغ من العمر خمس سنوات، الذي نجا هو الآخر بمعجزة من نفس المرض وتكونت في جسمه أجسام مضادة للمرض، وهي التي تحتاج إليها أخته لمقاومة المرض.

شرح الطبيب الموقف للبنت كما شرحه لهذا الشقيق، وسأل الولد الصغير ما إذا كان يريد أن يمنح دمه لأخته. تردد الولد قليلا قبل أن يأخذ نفسا عميقا وقال: نعم، سأفعل ذلك إذا كان ذلك سينقذ حياة أختي.

وفي أثناء العملية كان الولد يرقد على فراش المرض بجوار أخته وهو يبتسم كما ابتسمنا جميعا عندما رأينا الدم يعود إلى وجه شقيقته وبدأت تستنشق العافية، ولكن حدث ما لم يخطر على البال، حيث بدأ وجه الولد في الشحوب فجأة وبدأت ابتسامته تذبل، ونظر إلى الطبيب وسأله بصوت مرتعش: هل سأموت الآن؟

والحكاية وما فيها أن ذلك الطفل قد أساء فهم الطبيب، فقد اعتقد أنه سوف ينقل لأخته كل الدم الموجود في جسمه وبعدها سوف يموت. فهل هناك تضحية نبيلة وبريئة أكثر من ذلك؟!

ويا بُعد الفرق بيني وبين ذلك الطفل عندما رفضت أنا بكل حماقة وإصرار أن أتبرع ولو بقطرة دم واحدة لأحد أصدقائي عندما كان في حاجة قصوى إلى ذلك وهو بين الحياة والموت في غرفة الإنعاش، ومن حسن حظه أنه وجد من يتبرع له غيري وخرج بعد ذلك صحيحا معافى، وما زال على قيد الحياة (يصقل ويرمح)، غير أن (قليل الخاتمة) قطع صلته بي بعد ذلك نهائيا. على أية حال لست نادما على ذلك (وما عليه حسوفه).

وما أبعد الفرق كذلك بيني وبين المدعو (حسن عبد الغني)، وهو من أبناء قرية (فنو) بمحافظة الفيوم جنوب غربي القاهرة ويعمل جزارا، وهو الذي تبرع بأكثر من ألف وتسعمائة لتر من دمه منذ عام 1990 حتى الآن.

وصرح الدكتور عبد القوي عبد الرزاق مدير الإدارة الصحية بأن هذا المعدل من التبرع يعتبر غير عادي، مما يؤهله لدخول موسوعة الأرقام القياسية العالمية (غينيس). ويقول إن نظام التغذية لديه نظام عادي، وهو يحتوي على الإفطار بالفول صباحا مع رأس من البصل وقليل من الطرشي، ويشعر بالتعب الشديد إذا لم يتبرع بدمه بين حين وآخر.

والجدير بالذكر أن مستشفيات الفيوم تستعين بهذا المواطن كبنك دم متنقل لفصيلة (O) التي تعطى لجميع فصائل الدم، رغم أنه لا يتقاضى عن ذلك أجرا. وتتلخص أمنيته في الحصول على سكن ملائم في قريته فقط لا غير، وهو ما زال أكثر المتبرعين بدمه لجرحى (ميدان التحرير).

هل تصدقون أنني بدأت أخجل من نفسي؟! ومع ذلك فلن أتبرع بقطرة واحدة من دمي لأي كائن من كان، لأنني أخشى عليه من أن يصاب مثلي بـ(السعار الجميل)، فهذا السعار هو لي فقط، ومن بعدي الطوفان، شاء من شاء وأبى من أبى.

[email protected]