ديمقراطيات الفراغ

TT

رغم كل دعوات الفرح والابتهاج بالربيع العربي أو أزمنة «الثورات»، وهي بدون شك تحمل في طياتها - شأن أي تغييرات كبرى - إيجابيات؛ فإن حالة التشاؤم التي يفرزها المشهد السياسي في البلدان التي مستها رياح الثورة؛ تدعو وبشكل جاد إلى مراجعات نقدية لكثير من المفاهيم التأسيسية لخطاباتنا الفكرية بتياراتها المختلفة من أقصى يمين الأصولية إلى نهايات يسار الليبرالية العربية الجديدة، والتي في سابقة تاريخية تنحت عن الالتصاق بالسلطة، وهو شأنها منذ نشأة الدولة العربية الحديثة إلى حالة من «التوهان» الفكري بسبب الاحتفاء، الذي يلامس حدود الاحتفال بالديمقراطيات الجديدة.

لم يعان المشهد السياسي العربي منذ نشأته حالة من التبسيط في القراءة السياسية كالتي نعاني منها اليوم، فتغيير الأنظمة الحاكمة أدى إلى بروز أفكار وأحزاب وسياسات وتصورات دون محتوى، ما يمكن الاصطلاح عليه «ديمقراطيات الفراغ»، حيث سقوط أنظمة عتيدة زمنيا جاءت في معظمها بسبب انقلابات عسكرية صريحة أو ناعمة ساهم في خلق حالة «الفراغ» التي تعاظمت بسبب غياب التثقيف السياسي، والأكثر فداحة حصر مصادر التلقي للفرد العربي بخطابات أصولية، ليتم تسليم المجتمعات للإسلام السياسي الذي تغول ليصبح طرفا في صياغة الخطاب بعد أن كان مستخدما لأغراض تتصل بالحرب الباردة التي لم تكن حصرا بين المعسكر الشرقي والغربي؛ بل لامتداداتهما الآيديولوجية في الداخل العربي، وتحديدا موجة حرق اليسار بخطابات الإسلام السياسي.

غياب الخطاب السياسي وحضور الفعل السياسي بأشكاله العنفية والسلطوية وحتى التعبوية التي تبدو مجرد اقتراع على السلطة أو ممارسة أمينة للديمقراطية، جرف الجميع نحو تعزيز الاحتراب على الديمقراطية من خلال دوائر ضيقة تخنق مفهوم المواطنة الأشمل إلى مفاهيم ذات شعارات دينية أو قبلية أو جهوية.

هذه الدوائر متداخلة، إلا أنها ترجع إلى مكون واحد وهو «الهوية» المفتعلة، وهي بالتالي افتعالية تشبه كثيرا الهوية المزيفة التي نشأت في حقبة ما بعد الاستعمار ونشأة الأنظمة الانقلابية في الوطن العربي.

الأنظمة الانقلابية أفرغت المجتمع من البنى الأساسية للأحزاب والنقابات، وألقت بكعكة المجتمع لحلفائها الأصوليين، سواء كانت أصولية تستلهم شعارات دينية أو حتى الأصولية اليسارية، والتي أمدت أختها المتدينة بالكثير من التكنيك والتقنيات على مستوى الحشد والتعبئة والاستئثار بالشارع. من هنا نشأت طبقات مفصولة عن خطاب السلطة مما ساهم لاحقا في نشوء نخب جديدة بسبب حالة التحسن الاقتصادي، هذه النخب وهي في معظمها من الطبقة المتوسطة، لم تكن لتملك سوى الإيمان المطلق بالمرجعية السياسية للإسلام السياسي كمماثل ومطابق حصري لتدينها، ومن هنا فإن مجرد محاولة الفصل بين المرجعية السياسية والدينية تبدو أشبه بـ«التجديف» السياسي الذي يقترب كثيرا من حدود وعواقب التجديف «الديني»، إلا أن غياب السلطة الآن وحالة الفراغ التي يعاني منها المشهد العربي ساهم بشكل كبير في انفجار حالة الفراغ التي يتم التعبير عنها الآن عبر حالة الفوضى التي تعاني منها كل التيارات السياسية المضادة لتيار «الهوية» الجارف المصنوع على مهل حيث لا يمكن اختراق أطره السياسية إلا عبر شروطه في التحالف ورؤيته الخاصة والضيقة.

من هنا فإن تفسير صعود خطابات الهوية، المتمثلة في انتصار الإسلام السياسي الساحق، لا يمكن تفسيره بأسباب داخلية فحسب، فحديث الأرقام يقول: إن ثمة انفصالا عميقا بين مستوى تدين الشارع العربي فكرا وسلوكا وممارسة، والأفكار النوعية والنخبوية للإسلام السياسي حتى لو كانت هذه الجماعات حاضرة على الأرض عبر برامج اجتماعية وتنموية ومشاريع دعم صغيرة لا تحمل مضامين سياسية، وإن كانت تخلق الولاء العام.

حالة «الفراغ»، الذي خلفه انهيار المشاريع البديلة التي قدمها خطاب النهضة لكنها أجهضت على أنقاض دبابات الأنظمة الانقلابية، ساهمت في تصوير التيارات الأصولية كمكونات اجتماعية متماسكة، في حين أن الخلاف والاختلاف بينها؛ بل والانشقاقات الداخلية والاحتراب على الشرعية الدينية كانت وما زالت العائق الكبير أمام سيطرتها الكاملة على المشهد السياسي في حالة الفراغ هذه، وربما كانت نظيرتها التجربة الإيرانية، وإلى حد ما تجربة العدالة التركية الأكثر قدرة على الظهور ككتلة متماسكة؛ حيث قامت الأولى على شرعية الثورة، واستطاعت إقصاء كل التيارات الصغيرة ذات المنزع النقدي من طريقها؛ بينما كان تحالف الأتراك الإسلاميين مع الطبقة الوسطى والتجار الطريق الأقصر للبروز ككتلة سياسية واحدة.

وإذا كانت حالة الفراغ السياسي التي خلفتها الأنظمة الانقلابية سيدة المشهد، فإنها - وبكل تشاؤم تمليه المؤشرات - ستكون مهيمنة على القادم من السنوات لبقاء الأسباب المفرزة لها، فالعسكر، بما تمثله كل تشكلات الجيش في دول الربيع العربي، ما زالوا يمارسون حالة خلق الفراغ، حيث لا يزال مفهوم «السلطة» غامضا ومرتبكا لدى كل الأطراف.

المفارقة - رغم كل الدعاية السياسية حول الربيع الديمقراطي – هي أن الجيش والعسكر، ربما كانوا الأكثر قدرة على اللعب على حبال الوقت بحكم تماسك بنيته الاقتصادية وتكوينه الداخلي وحتى علاقاته بالخارج وتحديدا بالغرب الذي رغم كل رسائل الغزل المتبادلة بالقادمين الجديد؛ فإنه يحتفظ بـ«كرت» الجيش ليوم كريهة وسداد ثغر!

للأسف لا يوجد ما يدعو للقفز على حالة التشاؤم، لا سيما في ظل غياب أي تصورات جادة ومشاريع حقيقية لبناء مفهوم الدولة المدنية، وخلق نقطة التوازن في العلاقات بين التيارات السياسية المتصارعة، فآفاق الديمقراطية المبنية على الحقوق والعدالة والاستقلال، وليست مجرد الأدوات الانتخابية والاقتراع، تبدو بعيدة في ظل غياب فكرة «التكاملية السياسية» بين كل النخب، وفي ظل «فقر» التيارات الأصولية عن إيجاد بدائل غير سياسية على مستوى الاقتصاد والفن والثقافة، وكل مكونات المجتمع المدني بمفهومه الحديث.

الفكرة الأقرب والأسهل هي أن يتحالف العسكر مع الأصوليين بمعايير يفرضها السياق الداخلي، وتضبط إيقاعاتها القوى الغربية، وخاصة مقدمي المعونات المشروطة، هذا التحالف كفيل بعودة الديكتاتوريات ولكن في حلة جديدة ليست انقلابية أو شمولية، وإنما في صيغ وأشكال ديمقراطية تضمن البقاء الدائم والأبدي ولكن بشرعية الانتخاب، وهو الحال الذي يمكن قراءته بشكل مختصر حتى قبل «الربيع العربي» في انفراد التيارات الأصولية بالنقابات في الدول الربيعية وحتى التي لم تقم فيها الثورات بعد.

الأكيد أن البقاء في الممارسة النقدية لمخرجات مرحلة ما بعد الثورة، سيساهم ولو بشكل جزئي في إحراج الخطابات الأصولية القادمة على شرعية ديمقراطية عبر «التترس» حول مفاهيم الحريات والتعددية بمضامين ولغة يفهمها الشارع المغلوب على أمره.

[email protected]