صلاح منتصر.. من المنصة إلى المحكمة

TT

قادش هي المدينة الحيثية القديمة، التي أخذت شهرتها في التاريخ عندما شهدت واحدة من أعظم المعارك الحربية بين فرعون مصر الأشهر في التاريخ الفرعوني - رمسيس الثاني - وملك الحيثيين خاتوسيل، وبينما ذكر المؤرخون المصريون في زمن رمسيس الثاني أن ملكهم أنزل هزيمة ساحقة بأعدائه، تغنَّى المؤرخون الحيثيون المعاصرون للمعركة ببطولات ملكهم وكيف أعاد فرعون مصر مهزوما إلى بلاده! وعلى خلاف ما ذُكر هنا أو هناك نجد المصادر التاريخية تتحدث عن اتفاقية سلام بين القوتين وبالتالي نفهم أن أيا منهما لم تكن لها الغلبة كاملة.. وعلى الرغم من مرور ثلاثة آلاف وثلاثمائة عام على المعركة فإننا ما زلنا نؤرخ لقادش وللتاريخ المصري القديم.

هذه المقدمة مهمة عند النظر إلى كل عمل قصد من ورائه التأريخ، سواء لحدث أو لحقبة بعينها.

وعلى حجم الحدث ومدى تأثيره في التاريخ تتوقف أشياء كثيرة، أهمها بالطبع: التأريخ والتوثيق له وضمه إلى صفحات التاريخ، وكلما كان الحدث عظيما استغرق التأريخ له سنوات، وأحيانا قرونا كثيرة. والثورة المصرية لن تؤرخ الآن بأي حال من الأحوال، بل بعد مرور سنوات؛ فنحن ما زلنا نعيش ما يُعرف بفترة فهم الحدث واستيعابه وجمع وتحليل كل ما يكتب الآن من كتابات جادة منهجية. وعندما يكتب كاتب في وزن صلاح منتصر وقيمته عن عصر مبارك فلا بد أن نهتم ولا بد أن نتوقف عند ما يكتبه، خاصة أنه كاتب صحافي فريد في كتاباته، دائما ما يفصل نفسه بأهوائه وميوله الذاتية عمَّا يكتب، وهو أمر عسير لمن لا يعرف، لكن عندما تكتب للتاريخ فأنت أمام مسؤولية وهي أمانة النقل والتسجيل. وأعترف بأن صلاح منتصر استطاع تحقيق المعادلة الصعبة، وهي ظهور أول مؤلف حقيقي يتناول ثورة لا تزال في طور النشوء وذلك في زمن قياسي ودون أن يتدخل في الحدث ودون أن يغلب الأسلوب الصحافي على قلم المؤرخ.

يعترف صلاح منتصر أن كتابه لا يشمل الحقيقة كاملة، وهي التي تحتاج إلى سنوات لكي يتم رصدها وتسجيلها. وقد ركز على الأيام الستة التي كلف خلالها الدكتور حسام بدراوي بإدارة شؤون الحزب الوطني قبل الانهيار الكامل لنظام استمر ثلاثين عاما. وكان جمع الوثائق وتحليل المكالمات والبيانات المعلنة هما ذخيرة الكاتب عندما وضع كتابه الذي أضفى أبعادا أخرى لقضايا شائكة في عصر مبارك، وعلى رأسها بالطبع قضية التوريث وكيف استفاد منها البعض الذي قاد مؤشر الفساد إلى تحقيق معدلات قياسية.. الكتاب مقسم إلى 10 فصول ويبدأ من تولي مبارك رئاسة مصر في 14 أكتوبر (تشرين الأول) 1981، وذلك بعد حادث المنصة الذي راح ضحيته الرئيس السادات، فكان أن بدأ العهد بحادثة وانتهى بثورة وما بين الاثنين ثلاثون عاما لا بد أنها تحتاج إلى سنوات لكي يؤرخ لها ولآثارها على مصر والشرق الأوسط وسينال مبارك بالطبع حقه كاملا بما له وما عليه.

صلاح منتصر من عمالقة الفكر القلائل، يكنُّ لقلمه احتراما شديدا ويخاف عليه دائما من الانزلاق نحو جريمة الإثارة الصحافية؛ لذلك فعموده اليومي بجريدة الأهرام يحظى دائما باحترام وتقدير القارئ، الذي دائما ما يكون موضوع المقال غير مألوف له وغير متوقع، فلا يمكن أن تعرف عمَّا سيكتب صلاح منتصر غدا! وعلى الرغم من ذلك فهو بشكل أو بآخر ينتمي إلى مدرسة الراحل أنيس منصور.. تنفذ كلماته كالسهام إلى القلب والعقل، لا يضيع وقته في السرد والوصف كأنه قطار ماضٍ للوصول إلى المحطة المخطط لها في الزمن المحدد.