مركز دراسات الوحدة العربية

TT

في صباح يوم من عام 1975، التقى في مكتبي أستاذنا الدكتور عبد العزيز الأهواني والدكتور محمد أحمد خلف الله والأستاذ أحمد بهاء الدين - رحمهم الله جميعا - والدكتور خير الدين حسيب، الذي اقترح علينا إنشاء مركز علمي لدراسات الوحدة العربية على أن يكون المركز مستقلا في سياساته ونشاطاته عن كل النظم الحاكمة سواء في العالم العربي أو خارجه. واستقر الرأي على أن يكون مقر المركز مدينة بيروت على اعتبار أن لبنان كان هو البلد العربي الوحيد الذي يمكن أن ينشأ فيه المركز آنذاك (1975) ويمكن أيضا أن يمارس فيه نشاطه ودراساته باستقلال عن سائر الأنظمة.

ويقوم المركز بعدة إصدارات علمية وثقافية، ويعقد ندوات غنية وثرية، وسأشير بعد قليل إلى آخر الندوات التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية.

ومن أول إصدارات المركز وأهمها وأكثرها انتشارا مجلة «المستقبل العربي»، التي صدر عددها الأخير في شهر فبراير (شباط) الحالي، والذي يحمل رقم ثلاثمائة وستة وتسعين (396) للسنة الرابعة والثلاثين. ولم تتوقف المجلة طيلة هذه السنوات عن الصدور قط، وكل عدد من أعدادها يضم عدة دراسات وأبحاث على درجة عالية من العمق.

وإلى جوار «المستقبل العربي» يصدر المركز عددا من المطبوعات الأخرى. فهو يصدر سلسلة من الكتب التي تهتم بقضايا العالم العربي والتي تصدر بانتظام بين الحين والحين. ويحرص المركز على أن يسجل ندواته الثرية والغنية في مطبوع من مطبوعاته حتى يحتفظ بالأبحاث والجهود التي بذلت في ندواته.

كذلك فقد أصدر المركز سلسلة من الأطروحات الجامعية - أطروحات الدكتوراه أساسا وأحيانا بعض أطروحات الماجستير المتميزة - وقد صدرت من هذه الأطروحات مجموعة رائعة تيسر على الباحثين في موضوعاتها سبل البحث وتقدم لهم مزيدا من المراجع العلمية.

وأخيرا بدأ المركز بإصدار مجموعة «أوراق عربية»، وهي عبارة عن كتيبات صغيرة سهلة القراءة، وأمامي منها الآن كتابان أحدهما بعنوان «طه حسين وتحديث الفكر العربي» للدكتور فيصل دراج، والثاني عن «محمد عابد الجابري.. مسارات فكر عربي» للدكتور محمد الشيخ.

وآخر أنشطة المركز كانت تلك الندوة التي عقدت في تونس الأسبوع الماضي، والتي اختار لها المركز مقرا في مدينة الحمامات في فندق فاخر، رأينا بابه عند الدخول قبل بداية الندوة ثم رأيناه عند الخروج بعد نهاية الندوة ونحن في طريقنا إلى المطار، بمعنى أننا لم نر من تونس الخضراء شيئا غير الطريق من المطار وإلى المطار.

وحضر الندوة ثمانون مفكرا من سائر أنحاء العالم العربي مشرقه ومغربه، وقُدم في الندوة ثلاثون بحثا في ثلاثين جلسة على مدار الأيام الخمسة، وكان يعقب على كل بحث معقب واحد أحيانا ومعقبان اثنان في أغلب الأحيان.

وكانت الجلسات تبدأ في التاسعة صباحا ولا تنتهي قبل الثامنة مساء. وكان الموضوع الأساسي للندوة هو «الثورة والانتقال الديمقراطي في الوطن العربي»، وبدأت الندوة في جلستها الأولى ببحث عنوانه «الثورات العربية والخبرة الثورية العالمية (جنوب أوروبا وشرقها - أميركا اللاتينية)»، وقدم البحث الدكتور كريم المفتي وهو أستاذ جامعي لبناني وباحث في العلوم السياسية.

تم توالت بعد ذلك الندوات، وكان النظام يجري على أن يقدم صاحب البحث بحثه ثم يعقب عليه المعقبون ثم يتم عمل مداخلات من سائر أعضاء الندوة.

وكان من الطبيعي أن تتناول أبحاث الندوة التجربة الثورية التونسية بحسبانها هي التي بدأ بها الربيع العربي - الذي نرجو له أن يستمر ربيعا - وقد قدم هذا البحث أستاذ تونسي كبير هو الدكتور مصطفى الفيلالي، أحد المؤسسين الأوائل للمركز، والذي جاوز الآن تسعين عاما - أعطاه الله الصحة - وما زال يتمتع بعقل يقظ.

وقد عقب على ورقة الأستاذ الفيلالي الشيخ راشد الغنوشي مؤسس حزب النهضة الإسلامي في تونس. وأفاد المنتدون جميعا من الورقة الموضوعية العميقة ومن التعقيب القيم الذي قدمه الشيخ الغنوشي وأعلن فيه بوضوح أن حكومة تونس لن تعترف بإسرائيل - وكان هناك غزل أيام بن علي حول هذا الموضوع لكن الغنوشي قطع الأمر بوضوح - وأكد أيضا أن الحكومة الائتلافية القائمة في تونس الآن ليست حكومة إسلامية وإنما هي حكومة مدنية وطنية.

أيضا وبطبيعة الحال كانت تجربة الثورة المصرية التي بدأت في الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 2011 من موضوعات الندوة الأساسية، وقدم البحث الدكتور وحيد عبد المجيد الذي لم تمكنه ظروفه من الحضور، وعرض الورقة وعقب عليها الأستاذ الدكتور حسن نافعة والدكتور سامي فوزي، وشاركت أنا أيضا في التعقيب على الورقة التي أثارت كثيرا من الاهتمام يتناسب مع قيمة مصر وأهميتها في عالمها العربي.

ومن الأبحاث التي نالت اهتماما كبيرا البحث الخاص بتداعيات الثورة في الخليج العربي، والذي قدمه الدكتور يوسف خليفة اليوسف الأستاذ السابق في جامعة الإمارات.

والحقيقة أن أبحاث الندوة جميعا تستحق أن يفرد لكل منها مقال، وقد أرجع إلى بعضها في قادم الأيام بإذن الله. ويكفيني اليوم هذا العرض الإجمالي لهذه الندوة التي حركت في عقولنا ووجداننا مدى الترابط بين أجزاء العالم العربي من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي حيث تطل شواطئ المغرب.

تحية خالصة لمركز دراسات الوحدة العربية، وتحية لكل القائمين عليه وفي مقدمتهم المناضل الصديق خير الدين حسيب.