العلمانية في العراق.. حل أم نتيجة؟

TT

يكثر في هذه الفترة الحديث عن العلمانية ومستقبلها في العراق والعالم العربي، حديث يحتاج إلى طرح جملة من الأسئلة والإجابة عليها، ومن خلال هذه الإجابات يمكننا الوصول إلى مقاربات تقودنا إلى فهم واقعنا الذي بدأ يبحث وسط تراكمات الفشل السياسي عن آيديولوجية بإمكانها أن تنتشله من الواقع الذي يعيشه.

أول هذه الأسئلة: هل نمتلك أحزابا علمانية بمعنى الكلمة قادرة على كسب ثقة الناخبين؟ لأن عملية ارتقاء سدة الحكم في العراق الآن تعتمد على الناخب بالدرجة الأولى والأخيرة، وبالتالي فإن هذا يحتاج إلى ترسيخ قناعات ثابتة لدى الناخب العراقي بأن الأحزاب العلمانية بإمكانها قيادة البلد بالشكل الذي يطمح إليه المواطن.

الواقع يقول إن أحزابنا العلمانية لا تمتلك هذه الأرضية ولا هذه الشعبية، على الأقل في الوقت الراهن، لأسباب كثيرة، في مقدمتها الأنظمة والقوانين الانتخابية التي سلبت حق الأحزاب الصغيرة وأغلبها ليبرالية علمانية - إن صح التعبير – في أن تحظى بتمثيلها البرلماني، خصوصا أن مؤيدي هذه الأحزاب لا يتمركزون في دائرة انتخابية واحدة، بل هم منتشرون في عموم العراق، وبالتالي فإن أصواتهم تهدر لعدم وصولها إلى العتبة الانتخابية، وهذه من مساوئ النظام الانتخابي في العراق.

النقطة الأخرى وهي الأكثر أهمية باعتقادي تكمن في عدم بروز زعامات علمانية من شأنها أن تحظى بتأييد الشارع العراقي، وحتى وإن وجدت هذه الزعامات فإنها انصهرت في النخب السياسية العراقية الموجودة حاليا وأصبحت جزءا من كتل وائتلافات غير متجانسة وأضاعت هويتها الآيديولوجية بشكل أو بآخر.

السؤال الثاني الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل نحتاج إلى العلمانية؟ يبدو السؤال أشبه ما يكون بالبحث عن خيارات الإنقاذ بعد أن اكتسحت الأحزاب الدينية انتخابات 2005 كأمر واقع فرضته ظروف العراق آنذاك من جهة، ومن جهة أخرى فإن بديل النظم الشمولية بعد سقوطها هي الأحزاب الدينية كمرحلة انتقالية أولى بحكم أنها قادرة على سد الفراغ الذي ينجم من سقوط النظم الشمولية، بينما وجدنا تراجعا كبيرا في انتخابات 2010 للأحزاب الدينية إلا من تمكنت من التخلي عن الشعارات الدينية وطرحت برنامجها السياسي وفق رؤية جديدة تنسجم وتطلعات الشعب في هذا المكان أو ذاك، في محاولة تبدو صائبة بعض الشيء في تكوين آيديولوجية تخلط ما بين الإسلام وطروحات العلمانية والحداثة، بعيدا عن ذلك الصراع الأزلي ما بين الإسلام والعلمانية. وبرزت هذه الأحزاب على أنها أحزاب سياسية وليست دينية.

ونجد هنا أن المجتمع العراقي بصورة عامة، رغم كونه مجتمعا متدينا، يميل إلى عملية فصل الدين عن الدولة، هذا الفصل الذي من شأنه أن يحفظ للدولة هيبتها ونظامها وسلطتها القانونية، وبالمقابل يمنح الدين قدسيته وروحيته ومهمته الأساسية في بناء المجتمع وفق المبادئ والقيم السليمة، وبالتالي فإن المجتمع العراقي يريد دولة علمانية حتى وإن شكلت حكومتها أحزاب دينية في مرحلة من مراحلها.

إذن حين نطرح العلمانية في هذا الوقت إنما نحن نبحث عن حلول لبعض مشكلاتنا السياسية وحتى الاقتصادية، وعلينا أن نلغي من ذاكرتنا أن ثمة تعارضا أو تقاطعا بين العلمانية والإسلام، ولنا في التجربة التركية خير دليل على ذلك. تركيا العلمانية وتركيا المسلمة لا تعارض في هذا، فالشعب التركي مسلم، وأحزابه الدينية وصلت إلى سدة الحكم وحافظت على علمانية تركيا بطريقة بهرت أوروبا ذاتها وأميركا، بدليل نجاح الاستفتاء الأخير حول التعديلات الدستورية في تركيا، مما يعزز من فرص حزب العدالة والتنمية الإسلامي بزعامة أردوغان للفوز في الانتخابات القادمة. ونحن هنا لا نريد نقل التجربة التركية أو غيرها من التجارب المشابهة لأننا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار ظروف كل بلد ومجتمع واختلافه عن الآخر رغم وجود قواسم مشتركة كثيرة بين تركيا وبلداننا العربية والإسلامية، فيمكن اعتبار «التجربة التركية» من منظور علماني أو منظور إسلامي مصدرا لاستخلاص كثير من النتائج الصالحة، ليس للتقليد المحض، فهو مستحيل بالتأكيد، إنما لتحديد معالم كبرى لأرضية الأسس والقواعد السارية المفعول في تلك البلدان أيضا.

* كاتبة عراقية