النهضة الثانية والانتفاض العربي

TT

يرد نعت النهضة الثانية عند العديد من المفكرين العرب المعاصرين تعبيرا عن الأمل في تحقيق نقلة نوعية في الوجود العربي (سياسيا واجتماعيا وثقافيا)، وفي الوعي الثقافي خاصة. يحمل هذا النعت الأمل في المستقبل، من جهة أولى، والإيمان، من جهة ثانية، بأن الحال العربية لا يمكن تغييرها تغييرا فعليا إلا بالتطلع إلى نهضة عامة وشاملة. والنهضة الثانية تعني، من جهة ثالثة، الإقرار الضمني بانتهاج خطة تقود إلى تلك النهضة. ويرد نعت النهضة الثانية، تمييزا لها عن النهضة الأولى أو ما اصطلح الدارسون على نعته كذلك، ليشمل الفترة التي تمتد من منتصف القرن التاسع عشر إلى ثلاثينات القرن الماضي، وربما امتد عند بعض الدول ليبلغ مشارف الخمسينات.

يدور خطاب النهضة (الأولى) حول مفاهيم الإصلاح والتقدم والتطور والتغيير والتجديد، وكل من هذه المفاهيم يحيل إلى منظومة قائمة الذات. وهكذا نجد «الإصلاح» يشكل، في المنظومة السلفية، مفهوما محوريا تدور حوله كل المفاهيم التي تتصل بالنظرة السلفية والخطاب السلفي في هذه الفترة التي أطلق عليها نعت السلفية الكلاسيكية (تمييزا لها عن الخطاب الذي ينعته البعض اليوم، أو ينعته أصحابه أنفسهم بالسلفي). كما نجد أن «التقدم» وكذا «التطور» يمثلان مفتاح ولوج الخطاب الليبرالي، في بداياته الخجولة وغير الواضحة كليا، كما تظهر في كتابات أحمد لطفي السيد وقاسم أمين ثم عند كل من طه حسين وعلي عبد الرازق ومجايليهم في بلاد الشام وفي تونس والمغرب، وإن كان في هذا البلد الأخير بكيفية أكثر خجلا وترددا.

ما النهضة الثانية عند المفكرين العرب المعاصرين؟ وما الفرق بينها وبين حركة الانتفاض العربي التي ما تفتأ تطالب بالتغيير وترفع شعارات المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان؟ وإذا كنا نتبين أنه قد كانت للدين مكانة مركزية في خطاب النهضة العربية الأولى، فما مكانة الدين عموما والإسلام تخصيصا في خطاب النهضة الثانية اليوم؟ هل يمكن القول عن هذا الحراك الذي يهز الشارع العربي اليوم، في بلاد كثيرة من بلدان العروبة، إنه من مقدمات هذه النهضة أو إنه يتصل بها على نحو من الأنحاء؟ أسئلة مشروعة، منطقية وطبيعية فهي تتصل بقضايا الساعة أو بالقضية الأساس في وجودنا المعاصر، ولكننا نملك فقط، في هذا المقام، أن نثيرها وننقلها إلى بؤرة الشعور دون أن نغوص فيها خشية الابتعاد عن صلب الموضوع الذي نحن بصدد القول فيه.

نعود إلى قضية النهضة ذاتها، في عمومها، فنبدي جملة ملاحظات نستخلصها من النظر في أمثلة دالة من التاريخ البشري في شموله. نستحضر أمثلة ثلاثا من حركات توصف جميعها بحركة النهضة: مثال النهضة الغربية في القرن السادس عشر، ومثال النهضة اليابانية في القرن التاسع عشر وما قبله بقليل، وحركة النهضة العربية (الأولى). ننظر في هذه الحركات فنجد أنها، جميعها، تلتقي في اجتماع شروط واضحة ثلاث. نجد أولا أنها كانت تدعو إلى الرجوع إلى عصر مرجعي تعتبره سلفا يجب الاقتداء به، وثانيا أنها تحمل مشروعا ثقافيا واسعا شموليا، ونجدها ثالثا وأخيرا تقتضي وجود حامل أو رافد بشري قد يكون الدولة آنا وقد يكون طبقة اجتماعية تارة وربما كان مجموعا من الأفراد عمل كل منهم في مجال واجتهد في تأييد المشروع الثقافي الضمني (فقلما يكون المشروع مشروعا إلا أن تكون الدولة هي من ينهض به).

أما النهضة الغربية فقد كان عصرها المرجعي هو العصر اليوناني - الروماني، واليوناني خاصة، وكان المطلب هو الرجوع إلى النصوص الأصلية التي أفسدتها تدخلات رجال الكنيسة فتشوهت صورة الفكر اليوناني تشوها كثيرا، والنهضة لا تكون عند رجال النهضة إلا في معاودة الاتصال بهذا العصر بغية استلهامه. وأما عند رجال الدعوة اليابانية إلى النهضة فقد كانت لهم «سلفيتهم» كما يوضح ذلك الباحث محمد أعفيف في دراسته الدقيقة والثمينة الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية «أصول التحديث في اليابان». وأما بالنسبة لمفكرينا في عصر النهضة فيصح القول إجمالا إن الدعوة إلى الرجوع إلى «السلف» كانت، في حقيقتها، دعوة إلى العودة إلى نوع من العصر التركيبي الذهني الذي يذوّب أزمنة شتى (العهود الإسلامية الأولى، زمان المأمون وبيت الحكمة، زمان التراث الأندلسي...).

وأما المشروع الثقافي فقد كان مشروعا واضحا تمام الوضوح عند دعاة النهضة الغربية كما تشهد بذلك الحركة العظيمة التي شهدتها المرحلة وترجمها رجالها. والمشروع الثقافي الشامل كان جليا كذلك (ونحن نحيل ثانية إلى دراسة أعفيف التي أشرنا إليها أعلاه)، والشأن مختلف عن ذلك بالنسبة للنهضة العربية ولكن المعنى قائم موجود. وأما الحامل البشري فقد كان رعاة الثقافة الذين ازدهى بهم عصر النهضة الغربية، فلولا وجود رعاة أنفقوا على الفكر والثقافة والفن بسخاء لما كان هنالك أثر يذكر لرسام مثل ليوناردو دافنشي ولا لمفكر فذ مثل مكيافيللي والأمثلة في الأدب عديدة متنوعة.

وفي اليابان انتهضت الدولة بمهمة دعم المشروع الثقافي الشامل. وفي العالم العربي يرجع الفضل إلى الدولة حينا (كما هو الشأن في مصر أيام محمد علي) وإلى أفراد وخواص في الأغلب الأعم بالنسبة للعديد من الدول العربية وإلى جمعيات ناشئة (وفي الإمكان ذكر مثل كل من المغرب وتونس ومصر).

فما الشأن بالنسبة للنهضة العربية الثانية؟

لا غرو أن العالم العربي قد عرف بدوره رجة مست جوانب منه واختلفت في الشدة والوضوح بعد سقوط جدار برلين وما مثله هذا السقوط من دلالة رمزية على التضعضع الذي أصاب المعسكر الشيوعي والدول التي كانت تدوره في فلكه إجمالا وفي محيط الاتحاد السوفياتي القديم خاصة. كذلك ارتفعت الأصوات التي تنادي بقيم ظلت غائبة أو مغيَّبة أزمنة عديدة أو كانت تعد من ملحقات الرأسمالية ومتعلقاتها (الديمقراطية في معنى التعددية السياسية والحياة البرلمانية على النهج الليبرالي، وحقوق الإنسان، والكرامة...).

من جهة أخرى لحق الوطن العربي أثر قوي ومباشر من آثار الثورة الإعلامية ثم الرقمية، فباءت محاولات الأنظمة الشمولية بالفشل في فرض الرقابة والمنع على الشبكة وأدوات التواصل الاجتماعي. تعذر الأمر على تلك الأنظمة لأسباب أقواها أنها كانت، بالضرورة، في حاجة إلى خدمات الشبكة وعالمها خدمة للتجارة والتبادل، بل وخدمة للدواعي الأمنية ذاتها. ربما طال الحديث في هذه النقطة، غير أن الأكيد هو أن الإنترنت والعالم الافتراضي اللذين كان لهما الدور الذي نعلم في حركات الشباب في تونس ومصر وليبيا والمغرب وغيرها من الدول ترجع قوته إلى قوة ما عددنا من الأسباب الأمنية والاقتصادية في الكثير من تلك البلاد.

يصح الحديث، إجمالا، عن نضوج منطقي وطبيعي لحركات تتجاوز السطح لتنال العمق في بلادنا العربية المختلفة. هنالك معطيات موضوعية تجعل من مقدم التحولات الاجتماعية والسياسية أمرا مفهوما وملحا، ومن الأنظمة العربية ما ظهرت منه قدرة على الإنصات إلى مجرى التاريخ وإدراك ريح التطور والتغير، ومنها ما حملته اختياراته الليبرالية في الاقتصاد على ذلك حملا. وإذن فليس يملك العالم العربي أن يكون خارج السرب (أو يظل في غفلة عما يحدث في العالم من حوله وتهب به ريح التغيير). لنقل إن سير التاريخ يدعو إلى تحول لا أحد في عالم اليوم يملك أن يكون خارجه أو أن يهرب منه.

نعم، هنالك صلة وارتباط بين حركة الانتفاض العربي وما يتحدث عنه البعض من مفكرينا إلى النهضة الثانية، بيد أن هنالك غائبا كبيرا في هذا وهو المشروع الثقافي الشامل، أما القول بوجوب العودة ثانية إلى زمان مرجعي سابق فهي موجودة مع توسع في معنى الزمان المرجعي (فهو يعني، إضافة إلى ما دعا إليه مفكرو النهضة الأولى استلهام عصر النهضة ذلك من جهة واستلهام التراث الإنساني التحديثي من جهة أخرى) وهذا ما يستدعي قولا آخر لا يتسع له المجال اليوم.