إيران والعرب والتجربة الأوروبية

TT

هل هناك إمكانية لنقل العلاقات العربية - الإيرانية من توتراتها الحالية، التي قد تنذر بصدامات، إلى علاقات تعاون تفتح الأبواب على حقبة جديدة مختلفة؟ أعتقد أن الأمر ليس بهذه السهولة، كما أنه ليس صعبا، فيما إذا توفرت النيات الطيبة، وفكر الجميع في فوائد السلام، وأحصوا الخسائر المترتبة على المشادات والتوترات، وما بالك بالحروب والصدامات، ولنتخذ من تجارب الشعوب المفيدة مفتاحا لطرح مشروع تعاون عربي - إيراني، يحل مكان الهواجس والمخاوف والدسائس والمؤامرات، التي يعتقد الكثيرون أنها تحاك في أقبية سرية في هذه العاصمة أو تلك.

ومثلما تتدارس القيادات العسكرية في دول العالم خطط المعارك الناجحة عبر التاريخ، لنتدارس خطط النجاح والوئام، ولنأخذ التجربة الأوروبية التي انتقلت من حروب وصراعات طويلة، توجتها حربان عالميتان شرستان خلال النصف الأول من القرن العشرين، لتدخل بعد ذلك في عصر التعاون الذهبي، ضمن الاتحاد الأوروبي، الذي لا ينكر أحد فوائده لكل أعضائه من الدول الأوروبية. ولأن العالم معرض باستمرار لأزمات سياسية واقتصادية، فإن التفكير السليم هو الذي يذهب باتجاه الاستفادة من الإمكانات بدلا من السير باتجاه تبديدها لتعزيز القوة العسكرية في هذا البلد أو ذاك، وهو ما يحصل الآن في الكثير من الدول العربية وإيران. وإذا تعمقنا في التجربة الأوروبية وأخذنا المفيد منها، فإننا قد نضيف إليها عوامل قوة في مشروع التعاون والتكامل العربي - الإيراني، وقبل كل شيء لا بد من الاقتناع بأننا لا نحتاج لحرب مدمرة بين العرب والإيرانيين لنفكر بعد حصول الدمار والخراب في مشروع تعاون وسلام، وكما يقول المفكر بيار كلالام، فإن «فكرة الوحدة الأوروبية لم تولد من بنات أفكار مؤسسيها أثناء النصر غداة الحرب العالمية الثانية، إنما أثناء الدمار في الحرب العالمية الأولى»، وفي واقع الحال فإننا لسنا بحاجة إلى حرب أو حروب جديدة، لنتأكد من أهوال الحروب وما تجره من ويلات على الأمم والشعوب، وتكفي نتائج الحرب العراقية - الإيرانية (1980 - 1988)، التي ما زالت تداعياتها متواصلة في العراق وإيران ودول المنطقة، والخسائر البشرية الكبيرة من أبناء البلدين، إضافة إلى الخسائر المادية، وهي أكثر بكثير (دخل العراق الحرب عام 1980 بفائض في الميزانية قدره 36 مليار دولار وخرج بديون طائلة تقدر بأكثر من مائة مليار دولار)، وكل ما جناه البلدان تلك المقابر الواسعة لضحايا الحرب، فمقابر العراق تذكر بقتلة هؤلاء، ومقابر إيران تستحضر في الأذهان الذين قتلوا أبناءهم.

لقد مرت الوحدة الأوروبية بمراحل كثيرة وعثرات كبيرة، ولم يكن الطريق معبدا كما يتصور الكثيرون، ويعتقد البعض أن فكرة الوحدة الأوروبية بدأت من منطلق اقتصادي، وهذا غير دقيق، لقد كان محور الفكرة في حيثياتها الأولى يتمحور حول مشروع واتفاق وصيغة تضمن الحفاظ على السلام الدائم في أوروبا، وأرادوا في البداية اعتماد القوة العسكرية باعتبارها «الرادعة لأي اعتداء خارجي»، وهو السبيل للمحافظة على السلم في أوروبا، إلا أن هذا المشروع انتهى إلى الفشل، لأن العقلية العسكرية تضع المخاوف من الآخر قبل أي اعتبار آخر، ويقول الدارسون للتجربة الأوروبية إنه بعد فشل مشروع الدفاع المشترك كاد اليأس يطيح بهذا المشروع بصورة نهائية، حتى ظهر السياسي البلجيكي الكبير بول هنري سباك، الذي أحدث نقلة كبيرة في المشروع بعد طرحه السؤال التالي، الذي قال فيه «بما أننا فشلنا في بناء أوروبا السياسية، فلم لا نحاول بناء أوروبا الاقتصادية»؟ ومن هنا انطلق مشروع الاتحاد الأوروبي.

إلى أي مدى يستطيع القادة والمفكرون العرب والإيرانيون طرح سؤال جوهري يقول: جميع تجارب الحروب والنزاعات تأتي بالويلات على الأمم والشعوب، فهل بالإمكان تقديم المشتركات الإيجابية بين العرب والإيرانيين على العوامل الخلافية، والشروع في خطوات حقيقية وصادقة للبناء والتعاون المشترك؟

سيجيب البعض بأن العرب لن يوقفوا مؤامراتهم ضد إيران، وبذات الجملة سيقول الكثيرون إن إيران تعمل على غزو الدول العربية مذهبيا، ولكن هل يمكن أن نطرح رأيا آخر يقول: ألا يمكن الاتفاق على صيغ صريحة وواضحة يتم بموجبها إيقاف هذه المشاريع من جميع الأطراف، والشروع في تنفيذ برامج اقتصادية وصناعية وزراعية مشتركة أو متكاملة، وإحصاء الإمكانات والقدرات عند العرب والإيرانيين والإفادة منها في برامج تعاون واسعة.

ويمكن اعتماد نقاط القوة في مشروع تعاون وتكامل، وأهم هذه العوامل:

أولا: أن الكميات الأكبر من النفط مصدر الطاقة موجودة في الدول العربية وإيران.

ثانيا: إنشاء صناعات متكاملة لسد حاجة الأسواق في هذه الدول.

ثالثا: بالإمكان تنفيذ مشاريع زراعية في كل من إيران وبعض الدول العربية تضمن الأمن الغذائي بصورة تامة، الأمر الذي يعد في غاية الأهمية لمختلف أنواع ومفاصل الأمن الأخرى.

رابعا: الاتفاق على مشروع ثقافي وحضاري يحترم فيه كل طرف حضارة وتاريخ ومعتقد الطرف الآخر، والتخلي عن المشاريع المذهبية الخلافية، المعلن منها والخفي، التي تنذر بحدوث عواصف تشبه تلك التي ظلت تعصف وتخرب بأوروبا ومناطق أخرى من العالم، وفي نهاية المطاف وبعد الويلات والمصائب والخراب اتفق الجميع على التخلي عن تلك المشاريع والالتفات إلى المشاريع التنموية والتكاملية.

لا يخفى على أحد حجم الأموال المرصودة للمواجهة، ولا يخفى على أحد خطورة النزاعات وتأثيراتها على الأمم والشعوب.

فهل يستطيع الطرفان التأسيس لمشروع تعاون وتكامل، بدلا من التوترات الحالية؟ سؤال قد لا يرغب في الإجابة عنه جميع الأطراف.

* كاتب عراقي