العراق إلى أين؟

TT

كان لا بد لنظام الحزب الواحد الشمولي الحاكم أن يمارس أقصى درجات القمع ليتمكن من قيادة مجتمع تعددي غير متجانس مليء بالمتناقضات المذهبية والعرقية والثقافية، كالمجتمع العراقي، وقد ساعدت الحالة الاجتماعية والنفسية المتنافرة للشعوب العراقية الأنظمة السياسية المتعاقبة أن تفرض واقعا سياسيا قمعيا «لا نظير له» من الهمجية والوحشية، ولا يمت إلى الحضارة المعاصرة بصلة، وإزاء هذه الخصوصية السياسية «المغلقة» انسلخ العراق منذ حدوث أول انقلاب فيه على يد الزعيم عبد الكريم قاسم عن العالم الخارجي، وأصبح يعيش في عالم آخر، منفردا، بعيدا عن مبادئ الحداثة ومستلزمات العصر، منزويا في زاوية ضيقة، يتعامل مع العالم الخارجي المتقدم بحذر شديد، ولا تعنيه الديمقراطيات الموجودة فيه، ولا يهتم بالإنسان وحقوقه المهضومة، شغله الشاغل توضيب الانقلابات «الثورية» والتصدي للخونة والمارقين وأذناب الاستعمار والصهيونية! تاركا وراءه بلدا فقيرا، محطما، ينهشه الجهل والتخلف الحضاري من كل جانب، والعجيب أنه ما زال يوجد بعض بقايا هذا الفكر «الانقلابي» المهترئ، موجودا يرى في نفسه جبهة «ممانعة وصمود» ضد الصهيونية والاستعمار، كالنظام السوري الفاشي.. وجاء الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي في حربهما الباردة والقانون الأممي بتحريم وتجريم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ليطلق يد السلطات العراقية الغاشمة المتعاقبة على الشعب أكثر، ويزيد من عزلة الإنسان العراقي عن العالم الخارجي، ولكن ما إن تهاوى النظام البعثي الذي حكم طويلا بالحديد والنار، وجاء على أنقاضه نظام ديمقراطي «أو من المفترض أن يكون كذلك»، يعمل وفق مبادئ دستور متطور صوت عليه الشعب، حتى اصطدم السياسيون الجدد بالواقع العراقي المتناقض وتركيبته المعقدة التي تحتاج إلى معاملة خاصة، فالصورة ليست بالشكل المبسط الذي كانوا يتخيلونه ويسعون لتحقيقه أيام المعارضة، فهي أعقد بكثير مما تصوروه وخططوا له وبنوا على أساسه «جنتهم الموعودة»، فوقعوا في «حيص بيص» سياسي شديد، وتفاجأوا بالحقائق المؤلمة الموجودة على أرض الواقع، والكم الهائل من المشكلات التي ظلت من دون حل، فازدادت الأوضاع سوءا، وازدادت معها حيرتهم وعجزهم عن فعل شيء، فأخذوا يجرون البلد إلى أنفاق مظلمة مجهولة، ويغرقونه في أزمات عميقة، أزمات من كل نوع؛ سياسية واقتصادية وثقافية.. إلخ، بحيث لا يمر يوم دون أن يحدثوا أزمة جديدة من العيار الثقيل، حتى أصبح لافتعال الأزمات قواعد واستراتيجيات ينتهجها السياسيون الحاليون، فإذا أرادوا أن يحققوا مكسبا سياسيا سارعوا إلى إحداث أزمة، أو إذا أرادوا أن يصلوا إلى منصب أو الاحتفاظ به أو حرمان أحد الخصوم منه لجأوا إلى افتعال أزمة، فالمكسب الكبير يحتاج إلى أزمة كبيرة، وكلما كانت الأزمة كبيرة، كانت المكاسب كبيرة، فالصورة قاتمة إلى أبعد حد، لا يمكن الخروج منها بسهولة على المدى المنظور، والواقع يؤكد أن إثارة الأزمات أصبحت أو في طريقها لتكون ظاهرة سياسية متبعة في العراق.

فـ«المالكي» ظل يحارب على كل الجبهات ومع كل معارضيه السياسيين، ويمارس هذه الاستراتيجية كلما ضاقت به السبل وظن أنه مهدد في منصبه من قبل شركائه في الحكم، ولم يتوان للحظة عن أن يدخل البلاد في أتون صراع طائفي وإثني مرير، ويجعل مستقبله في كف عفريت من أجل الحفاظ على المكاسب السياسية التي حصل عليها.

وكما خدع المجتمع العراقي المتنوع المتناقض والمتنافر تقديرات الحكام الجدد السياسية وتوقعاتهم المستقبلية، وقلب موازينهم وأحلامهم الوردية رأسا على عقب، خدع الساسة الأميركيين أيضا، فقد تصوروا للحظات أنهم سيستقبلون بالأحضان والورود لدى دخولهم إلى العراق فاتحين منتصرين، وظنوا أنهم سيحولون المجتمع العراقي إلى مجتمع ديمقراطي متماسك يكون نموذجا يحتذى في المنطقة بأسرها، كما صرح بذلك قادتهم مرارا وتكرارا، ولكن شيئا من هذا لم يحصل، لأن العراقيين أعطوهم صورة مغايرة تماما لتلك التي رسموها من قبل وخططوا لها، والنتيجة أن الأميركيين تسابقوا في الخروج من العراق تاركين وراءهم أزمات ومشكلات لا تحصى، وأحزابا وكتلا تتصارع فيما بينها وتتقاسم المكاسب، فيما ينحدر البلد نحو مصير مجهول، لا أحد يستطيع أن يتكهن بما سيؤول إليه حال العراقيين في المستقبل، ولكن وفق أنسب سيناريو مطروح وأكثره انسجاما مع مجتمع متصارع ومتناقض مثل المجتمع العراقي، يكون التقسيم هو الحل المنطقي الوحيد الذي يضع حدا لحالة الصراع الدائمة بين مكوناته وشعوبه المتناقضة، وحلا جذريا ونهائيا للأزمات الكثيرة التي لم تعالج ولن تعالج.