في البعد الاجتماعي للثورة

TT

أكثر الأبعاد بروزا في ثورة السوريين هو بعدها السياسي؛ إذ هي صراع بين النظام ومعارضيه في المستوى الشعبي من خلال المتظاهرين، من جهة، ومن خلال مواقف الجماعات والكتل السياسية من جهة ثانية، وقد رد النظام، من جانبه، على التظاهر والاحتجاج السياسي ومواقف المعارضة بحملات أمنية، قبل أن تتطور تلك الممارسات إلى حملات أمنية – عسكرية واسعة، تمخضت عن قتل وجرح واعتقال وتشريد عشرات آلاف السوريين وتدمير ممتلكاتهم، مما عزز فرصة بروز البعد العسكري المسلح في الثورة السورية، إضافة إلى مثيله السياسي، وكان بين تعبيرات البعد العسكري انشقاقات داخل المؤسسة العسكرية – الأمنية نتيجة رفض المنشقين المشاركة في الحملات العسكرية – الأمنية أو انحيازهم للحراك الشعبي، ولجوء بعض المشاركين في الحراك إلى السلاح للدفاع عن النفس والرد على الحملات الأمنية، وما تسببه من آثار مدمرة في المناطق التي تستهدفها، إضافة إلى توالي عمليات عسكرية في مناطق سورية ملتهبة، وهذه بعض تعبيرات البعد العسكري - المسلح.

وعلى الرغم من أهمية ومركزية البعدين السياسي والعسكري في الثورة، نتيجة تأثيرهما القوي والحاسم على مجريات الثورة والنتائج النهائية للصراع بين النظام ومعارضيه وحسم مصير الثورة، فإن ثمة جوانب أخرى مهمة في الثورة بينها جوانب اقتصادية وثقافية، ولا يقل البعد الاجتماعي للثورة أهمية عن الجوانب السابقة، وإن كان الأقل بروزا.

وتعبيرات البعد الاجتماعي في ثورة السوريين كثيرة، وقد يبدو الأهم فيها في ثلاثة مفاصل أساسية، تتضمن ما طرأ على الواقع الاجتماعي من متغيرات في دوره ومساهمته في النشاط العام، والثاني تمثله عمليات الدعم والمساندة التي تتواصل للثورة وحواضنها الاجتماعية، والثالث يبدو في الأشكال التنظيمية، التي يسعى السوريون إلى تغيير فيها، أو خلق أطر جديدة منها.

أول تعبيرات البعد الاجتماعي يتمثل في التغيير الجوهري الطارئ على المشاركة الشعبية في النشاط العام، وبالتأكيد فإن ثورة السوريين تمثل حضورا ساخنا في النشاط العام. وفي هذه الثورة لم يزدَد فقط نشاط الرجال على اعتبارهم الأساس في الأنشطة العامة كما في المظاهرات والاحتجاجات، بل انضمت إليهم نساء كن خارج الفعاليات العامة عادة، وانضم إلى النشاط أطفال ويافعون لم يكونوا يشاركون في السابق بأي نشاطات، وبهذا المعنى فإن الثورة أحدثت تحولا كبيرا في الواقع الاجتماعي وقطاعات فئاته وفي علاقاتها الداخلية، بل يمكن القول في هذا الجانب: إن تبدلات اجتماعية حدثت في مدن وقرى الحراك الشعبي خاصة وفي مجمل الواقع السوري عامة.

وثاني تعبيرات البعد الاجتماعي ترسمه حقيقة تضامن السوريين مع بعضهم البعض في مواجهة أعباء الثورة، وهو أمر لم يقتصر على ما قامت به الحواضن الاجتماعية للثورة في المناطق التي تحملت العبء الأساسي من حيث احتمال تلك الحواضن، لما أصابها من تدمير وخسائر كبيرة، وتحملت هذه المناطق، إضافة إلى مناطق أخرى، فواتير الأضرار البشرية والمادية التي أصابت المتظاهرين والنشطاء، وفي هذا الجانب تم تأمين مساعدات متعددة ومتواترة، لا ينقص من أهميتها ما أصابها من إرباكات وارتباكات، تشاركت في صنعها عوامل موزعة بين النظام وخارجه.

وثمة أمر آخر في هذا الجانب من تعبيرات البعد الاجتماعي للثورة، وهي الصلة التي أقامها السوريون في الخارج مع مواطنيهم في الداخل، وعلى الرغم من أن الظاهر الأهم في هذه الصلة تمثله المساعدات المالية والعينية والطبية والتضامن الواسع، فإن الأكثر أهمية من ذلك تمثله أحاسيس سوريي الخارج بأنهم، بالفعل، جزء من السوريين، وسعيهم إلى إعادة تأسيس روابطهم وعلاقاتهم مع بلدهم وشعبهم على الرغم من أن بعضا منهم مستقرون وحاملو جنسيات البلاد التي يعيشون فيها.

والجانب الثالث من جوانب البعد الاجتماعي يمثل ميل السوريين إلى البحث عن هويات اجتماعية مستقلة عن الهويات المماثلة، التي أقامها النظام في عقوده الماضية، وهي هويات ظهرت عبر منظمات مهنية ونقابية للعمال والأطباء والمهندسين وغيرهم، كان الهدف منها إحكام القبضة على المجتمع بقطاعاته وفئاته وجعله في خدمة النظام ومبررا لمنظومته الآيديولوجية ومواقفه السياسية، وقد عززت الثورة الرغبة في خروج المجتمع السوري من هذه الأطر والهويات، ودفعه باتجاه الحرية، وهكذا أخذت القطاعات والفئات الاجتماعية المختلفة تطلق مبادرات تشكيل تجمعات مهنية ونقابية مثل رابطة الصحافيين ومثلها رابطة الكتاب، وجرى إطلاق هيئات تخص الفنانين المبدعين في أكثر من مجال، بل خُلقت أطر لم تكن موجودة سابقا مثل تنسيقيات الأطباء، وترافق ذلك مع جهود تُبذل في أوساط متعددة إلى جانب مخاضات تتواصل داخل المنظمات المهنية والنقابية التابعة للنظام بهدف دفع بعضها لتغيير توجهاتها، أو لخلق انشقاقات في داخلها.

لقد تركت الثورة بصماتها الثقيلة في الحياة الاجتماعية للسوريين بفئاتهم وقطاعاتهم، ومدت تأثيراتها إلى السوريين في المهاجر، وهذه تطورات لم تشهدها سوريا خلال عقود طويلة من تاريخها الحديث والمعاصر.