نزهة التظاهر

TT

هناك الكثير من العوامل النفسية والغريزية التي يغفل عن ملاحظتها الباحثون السياسيون والاقتصاديون والاجتماعيون. من ذلك مثلا مظاهر العنف؛ هناك كثير من الرجال والنساء يتمتعون حقا بالقيام بالعنف أو تحمله. أعرف شخصيا رجالا ونساء لا يتمتعون بالحياة العاطفية والجنسية من دون عنف، هذا شيء يقره علماء النفس ويسمونه بالسادية والماسوشية. ولكننا ننسى أن ذلك يسري على السياسة والاجتماع. كثيرا ما بلينا بساسة يستهوون ذلك، إذا لم يمكنهم الاعتداء على جيرانهم، كما فعل هتلر، يعتدون على شعوبهم، بل وعلى زملائهم، كما فعل صدام حسين ويفعل الأسد الآن. إنها السايكوباثيا. كتبت فقلت علينا أن نطالب أي حاكم جديد بشهادة طبية تثبت سلامته من الأمراض العقلية. على الرغم مما يبدو من فكاهة في القول، ففيه الكثير من الواقع. على العاملين في السياسة أن يراقبوا زعماءهم، ويلاحظوا نزعاتهم وسلوكهم. كل من عرف صدام حسين في صباه ذكروا لي ميله هذا للعنف السايكوباثي. لسوء الحظ لم ينتبه البعثيون لذلك ويبعدوه عن القيادة.

من نصائحي لأولادي، قلت لهم: تزوجوا أي امرأة تستهويكم، ولكن إياكم والمرأة المبتلية بمشكلات نفسية.

هواية العنف مسؤولة عن الكثير من الأعمال التخريبية، كما جرى في اضطرابات لندن الأخيرة، وفي الكثير من المظاهرات. هناك شباب متعطشون لهذه الرغبة. توفير وسائل رياضية سبيل من سبل تصريفها، ربما كان انشغال الإنجليز بالرياضة مبكرا في تاريخهم من عوامل عزوفهم عن العنف والثورة بالنسبة للدول الأخرى.

ضج العراق مؤخرا بظاهرة الزيارات المليونية لكربلاء. قيل إن الزيارة الأخيرة بلغت 16 مليونا من سائر المدن، أي نصف الشعب العراقي! دققوا في الأمر لتجدوا أن كل هذا الحماس للسير مشيا مائتين أو ثلاثمائة كيلومتر لعدة أيام تحركه الرغبة في نزهة مجانية تقطع هذه الحياة المرة الكالحة التي يعيشها العراقيون الآن. المرأة المحبوسة في بيتها تستطيع أن تخرج وتختلط بالرجال، ومن يستطيع منعها وهي ذاهبة لأداء هذا الواجب الديني؟ تسير بين مناظر البساتين وضفاف الأنهر الرومانسية الجميلة. تجد أمامها كلما شاءت الولائم الحسينية المجانية، فتتذوق اللحم بالرز والعدس ربما لأول مرة في حياتها. تنطلق بأعلى صوتها تنشد المراثي الحسينية المثيرة والأعلام والطبول تحيط بها. أكتب ذلك وأقول: أوه! يا ليتني أستطيع اللحاق بها بعيدا عن كل هذا البرد القارس والمطر المتواصل!

تعبر المسيرات الجماعية الدينية عبر التاريخ، وفي معظم جهات العالم، عن رغبة الإنسان في التحرر من قيوده الاجتماعية والعائلية. كثيرا ما ارتبطت في إسبانيا وفرنسا بموجات من التحلل الأخلاقي والإباحي والرقص الخلاعي والإفراط في السكر طوال السير إلى مرقد «فاطمة» في البرتغال أو لورد في فرنسا. عبثا حاول رجال الكنيسة كبح ذلك التحلل الفوضوي.

رغم كل احترامنا للأغراض النبيلة وراء مظاهرات الربيع العربي، فإنني ألاحظ أنها بدأت تأخذ مؤخرا إطار مناسبات للخروج من البيت والقيام بنزهة مع الأصحاب والاختلاط الاجتماعي وتصريف العواطف المكبوتة بالهتاف والإنشاد والأغاني. تشعر بذلك خصوصا عندما تلاحظ أن المظاهرة لا تنطوي على أغراض واضحة أو معقولة، فتصبح مجرد قناة للعواطف والغرائز.