فتن و«دول فاشلة».. النتيجة الحتمية للرهانات الخاطئة

TT

«البديل الوحيد للتعايش هو التدمير المتبادل»

(نهرو)

ما زالت أصداء الخطاب الناري الذي ألقاه السيد حسن نصر الله، في الأسبوع الماضي، تتردد في لبنان وعلى المستوى الإقليمي. ولقد رأى فيه بعض المتابعين أنه، في الظروف العصيبة التي تشهدها المنطقة، جاء خطوة تصعيدية قوية النبرة من أمين عام حزب الله.. بدلا من أن يختار عبره لجم الانزلاق نحو الفتنة. ويمكن أن يكون السيد نصر الله ارتأى أن «الهجوم خير وسائل الدفاع».. كي لا يقال إنه بات في «موقف ضعف» نتيجة لتراجع هيبة النظام السوري أمام شعبه الشجاع.. على الرغم من مرور سنة كاملة على نهج القمع والتقتيل اليومي.

ليس واضحا، بالطبع، ما إذا كان هذا الخيار نابعا من «الحزب» ذاته، أو إنه موجه من مرجعيات أعلى - خارج لبنان - يسير «الحزب» وفق رؤيتها وتعليماتها. لكنه - أي الخطاب - في أي حال، يسرّع انزلاق لبنان نحو وضع «الدولة الفاشلة».. تماما مثلما يعجّل ما يسمى بـ«الحل الأمني» التقتيلي بانزلاق سوريا نحو وضع مشابه، ما لم يحصل ما هو أسوأ.

المؤلم أن شبح «الدولة الفاشلة» الذي يظلل سماء مساحة عريضة من المنطقة لم يطل عليها فجأة. فقبل نحو عقد من الزمن مهد الرئيس العراقي السابق الراحل صدام حسين، لفرط سذاجته السياسية، الطريق أمام تنفيذ مخطط ما كان سريا البتة، بل صدر بشكل تقرير مفصل عام 1996، تحت مسمى «طي صفحة: استراتيجية جديدة لحماية المُلك» - أعده بعض غلاة «الليكوديين» الأميركيين بينهم ريتشارد بيرل ودوغلاس فيث وديفيد وورمزر. وكانت الغاية من ذلك «المخطط - التقرير» تسهيل هيمنة اليمين الإسرائيلي المتطرف على المشهد السياسي في الشرق الأدنى، وتصفية القضية الفلسطينية انطلاقا من نسف فكرة «الأرض مقابل السلام»، وإسقاط النظام العراقي.. لتأديب أي نظام آخر يمكن أن يعطل تنفيذ هذه الاستراتيجية.

وكما هو معروف استفاد «الليكوديون»، عبر تنسيقهم مع اليمين الأصولي الإنجيلي المسيحي، من «سرقة» جورج بوش الابن انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2000، وأحكموا سيطرتهم على وزارة الدفاع. ومن ثَم استثمروا هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على نيويورك وواشنطن لتنفيذ المخطط.

المخططون «الليكوديون»، ومنهم «الثلاثي» بيرل وفيث ووورمزر، كانوا يعرفون سلفا أن فراغا ما سينشأ بعد إسقاط النظام العراقي، ولا بد من وجود قوة ستملؤه. وكانوا على دراية كافية، أيضا، بالواقع الجيو - سياسي والخلفيات الطائفية والعرقية للعراق والمنطقة. وبالتالي، لم يفاجأوا بسقوط العراق فريسة سهلة لإيران، وبالأخص بعدما حطت قيادات عراقية - إيرانية الهوى والملاذ في بغداد بطائرات أقلتها من طهران إلى أرض العراق «المحتل».

من ناحية أخرى، إذا ما تذكرنا حجم حضور العقول والخبرات المرتبطة بالمصالح الإسرائيلية في الأوساط البحثية والاستشارية الأكاديمية الأميركية، يتبين أن المسألة ما كانت في يوم من الأيام مسألة «خلل في الحسابات» أو هفوات غير مقصودة؛ إذ إن مؤسسات الأبحاث والاستشارات الأميركية ذات الصلات الوثيقة بإسرائيل، تفهم جيدا خريطة الشرق الأوسط.. بشريا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا. وبالتالي، فإن الماكينة السياسية الإسرائيلية، حفظت عن ظهر قلب طبيعة الكيانات التي تتاخم إسرائيل، وهنا أقصد مباشرة لبنان وسوريا. وهي تتابع باستمرار «الصورة الكبيرة» لما يجري، وتحلل «الجزئيات التفصيلية» في ضوء التغيرات الديموغرافية والمصلحية المستمرة.

وبناء على ما سبق، فإن توهم جهة من الجهات المحلية أو الإقليمية أن لها مكانة أثيرة وثابتة في حسابات تل أبيب والقوى الداعمة لتل أبيب، ولو من منطلق «عدو عدوي.. صديقي»، توهم ينم عن سذاجة بالغة.

صحيح، دعم محور واشنطن – تل أبيب نظام صدام حسين ضد إيران في الحرب العراقية - الإيرانية الأولى، لكن ذلك الدعم لا يعني أبدا أن هذا المحور كان حليفا استراتيجيا لـ«السنية السياسية» في الشرق الأوسط. وفي المقابل، فهو بارك هيمنة آل الأسد على سوريا لأكثر من أربعة عقود وسكت على العلاقة «الحميمة» بين دمشق وطهران وحزب الله اللبناني، لكن هذا الواقع لا يعني الالتزام بـ«زواج كاثوليكي» دائم مع «الشيعية السياسية» أيضا.

مع هذا، فإن شرذمة من غلاة المتعصبين من أقليات المنطقة، على رأسها بعض أدعياء الثقافة والوطنية المسيحيين، ما زالت تؤيد وتتبنى نظريات انتحارية تبشر بـ«تحالف الأقليات». وهذه النظريات تتبلور حاليا بفكرة انضواء الأقليات الدينية والمذهبية في حلف تكتيكي تحت لواء «الشيعية السياسية» المسلحة في معركة «تركيع وتهميش» مفتوحة ضد الغالبية السنية على امتداد الشرق الأوسط.

في كل من سوريا ولبنان عزف هؤلاء الأدعياء على هذا الوتر، مع أن تجربة المسيحيين في فلسطين والعراق، بالذات، كشفت كم يغدو هشا مصير الأقليات في ظل التعصب الديني والمذهبي، وبالأخص عندما يتضافر التعصب مع التسلح. وواضح أنه غاب عن إدراك هؤلاء، الماضين حتى النهاية فيما يظنون أنها معركة تركيع السنة وتهميشهم، أن سعيهم هذا قد يولّد تهديدين خطيرين:

الأول: استنهاض رد فعل سني أصولي عنيف.

والثاني: إغراء بعض القوى الخارجية التي لديها مصالح وحساسيات – وعداوات – خاصة بها.. بالتدخل في المنطقة.. تحت ذريعة حماية الأقليات المرتبطة بها دينيا أو مصلحيا. أساسا، هكذا، جاء الاستعمار إلى الشرق الأوسط وتلاعب به لعقود.

السيد حسن نصر الله في خطابه الناري و«الصدامي» (من دون تشديد الدال)، بالأمس، تجاهل هذا الواقع عن عمد. وأكثر من هذا، ما زال حريصا على دعم شخص من نوعية ميشال عون – الذي يعرف السيد حسن تاريخه وأصله وارتباطاته - ويتغاضى كليا عن «عنترياته» الاستفزازية للسنة اللبنانيين، ولا سيما ضد صلاحيات رئيس الحكومة.. مع أن حزب الله هو من عيّن رئيس الحكومة الحالي في هذا المنصب أصلا!

إن المعركة المطلوب كسبها اليوم في منطقة الشرق الأوسط هي معركة «طمأنة» الغالبية السنية، وتغليب عناصر الاعتدال والانفتاح بداخلها، بدلا من استفزازها وتحديها ومحاولة محاصرتها.

ومن يقرأ التاريخ الإسلامي بتعمق يكتشف أن تيارات التسامح والاعتدال ظهرت دائما عندما كانت الدولة الإسلامية في عصورها الذهبية، بينما شجعت فترات الانحطاط والوهن والغزو الأجنبي نشوء كل أنواع التيارات التكفيرية والمتعصبة.

إن الفتنة أشد من القتل.. ألا تتعظون؟