تونس ونسمات الياسمين

TT

كان لتونس صورة جميلة في أذهان العرب دوما، فهي البلد الصغير الجميل المعروف بروعة تضاريسه ودماثة أخلاق أهله ورقيهم وتعليمهم. وعرف عن تونس التميز في مجالات مختلفة بشكل مذهل ومفاجئ يفوق دولا عربية أخرى تكبرها حجما، فهي برزت في مجال الفكر والأدب والدين وأخرجت عباقرة أفذاذا مثل ابن عاشور وهشام جعيط والشابي، وفي الفن عرفت أسماء مميزة مثل لطفي بوشناق وعليا وصابر الرباعي وهند صبري ولطيفة، وفي الرياضة برزت لتونس بطولات هائلة في التنس الأرضي والسباحة وكرة اليد وألعاب القوى، وطبعا في كرة القدم التي عرف فريقها الأسطوري المشارك في كأس العالم بالأرجنتين عام 1978 بأنه واجهة العرب الساحرة وقتها، ومن عرف مذاق الشاي التونسي والبريك والكسكسي والزيتون عرف أن لهذه البلاد مذاقا خاصا.

ولذلك كم كانت مفاجأة مذهلة حينما انطلقت أول نسائم الربيع العربي من تونس الخضراء وأسفرت عن نجاح ثورة الياسمين التي فجرها برمزية خاصة شاب بسيط اسمه محمد البوعزيزي، تحول إلى أيقونة مخلدة بحروف من ذهب في الضمير العربي، وباتت تونس اليوم هي مضرب الأمثال وسط المقارنات الأخرى مع الدول التي مر عليها الربيع العربي وحصد، مصر وليبيا واليمن وقريبا سوريا. تونس لم تتورط في مشهدها الحر المبارك القوات المسلحة التي حافظت على حيادها وقررت أن تصف إلى جانب الحق والعقل والشعب لا إلى جانب الطاغية وحاشيته الفاسدة، فأمنت نجاح الثورة وأكدت تسليم السلطة إلى سلطة مدنية منتخبة بامتياز.

وهذا ما تم، فتونس اليوم تعيش تحت حكم منتخب من الشعب بشفافية وحرية وكرامة، وفيها دستور مقر وعادل ومتساو، وفيها قوة أمنية محترمة وجديرة تحافظ على الأمن والأمان دون المساس بالحرية ولا ممارسة قمعية باسم ذلك، وفيها قضاء مستقل لا يتعرض لضغوط مريبة وتدخلات غامضة للتأثير عليه، وفيها حرية إعلامية يتحسن مناخها بعد سنوات من الحكم البوليسي المقيت الذي حولها إلى أبواق للاستبداد وتأليه الحاكم.

وقد كنت في مناسبة جميلة منذ يومين في مدينة جدة جمعتني برئيس الوزراء التونسي الجديد السيد حمادي الجبالي ومعه وفد من الساسة ورجال الأعمال والإعلام، وكم كان الحديث معه محترما وصادقا وباعثا على التفاؤل والأمل، فالرجل يتحدث عن ثقة وعن جدارة، فالشعب انتخبه، واستفتاء الرأي الأخير الذي أجري في تونس أوضح أن درجة القبول عليه وعلى أداء حكومته يقترب من مستوى الـ70 في المائة وهي نسبة عالية وممتازة يستحق عليها التهنئة. واستقبل الجبالي الكثير من الأسئلة والاقتراحات بصدر رحب لا يملك المتابع له إلا أن يقارن بينه وبين الرئيس التونسي الأسبق الذي كان متعاليا ويحكم بقبضة من نار وحديد، كان الخوف والتهديد وسيلته وشعاره.

واضح جدا أننا أمام تونس جديدة تماما، تونس أكثر ثقة بنفسها وأكثر فخرا واعتزازا بنفسها، وتلقى الثناء والتقدير والإعجاب والمساندة النابعة من القلب من دول العالم الصديقة والشقيقة في آن. وكم كان صادقا الجبالي وهو يقدم شكواه من وجود مستويات منخفضة جدا في التبادل التجاري مع العالم العربي بشكل غير مفهوم ولا مقبول، ولكن في الوقت نفسه يجب الاعتراف بأنه انعكاس لأرضية قديمة أوجدها نظام بن علي السابق الذي لم يكن يهتم بأحد في الحكم العربي سوى بعلاقته مع العقيد الليبي السابق معمر القذافي، ولذلك لم يكن يهيئ المناخ السوي ولا العادل ولا المنطقي لعلاقة «محترمة» مع العالم العربي.

تونس اليوم تفتح أبوابها بثقة ومن دون أدنى تصنع لأجل رسم خط جديد للعلاقات والشراكات المبنية على الاحترام والصالح العام، وسوف تكون ولا شك قدوة وأنموذجا من الممكن تقليده للحكم الرشيد والحقوق والواجبات في منطقة من العالم عرفت بالاستبداد والطغيان لسنوات طويلة جدا. وعلى الرغم من الافتخار المستحق الموجود في تونس ببنيتها التحتية المؤسسة بشكل جيد منذ زمن، فإنه يبقى في تونس «الكنز» الأهم والأكثر فعالية وهو البنية البشرية، فرأس المال البشري يبقى أهم ثروات تونس لما يتميز به الشعب التونسي من تعليم فريد وتأهيل خاص للدخول في أهم المنافسات وتحقيق أفضل النتائج. وبقي رجاء من تونس مطلوب وهي تستعد لاستضافة لقاء «أصدقاء سوريا» المقبل على أرضها، والذي دعت إليه دول ومنظمات لمساعدة الشعب السوري للخلاص من الطاغية الذي يقتله، هو أن تقبل تونس بدعوة كل المعارضة السورية دون أن تتأثر برفض البعض أو انتمائه؛ لأن ذلك سيعطل الفرصة التاريخية لإنجاز عمل عظيم.

وبقي القول إنني شرفت برجل عسكري كان برفقة رئيس الوزراء التونسي وهو رشيد عمار، قائد القوات المسلحة التونسية، الذي سيخلد اسمه كأحد أشرف العسكر العرب، حقن دماء شعبه بحرية وكرامة، خصوصا حينما نقارنه بالسفاحين العسكر في الجيش السوري الذين أهانوا الزي العسكري والقسم، وباعوا شرف المهنة لأجل إرضاء الطاغية. ثورة الياسمين التي انطلقت من تونس يجب أن تصل لياسمين دمشق الذي يحن لذلك، للحرية وللكرامة.

[email protected]