أنا باضيع يا ربيع!

TT

هناك حالة من المراجعة والقلق بين عدد غير قليل من المراجعين المهتمين بالشأن العام العربي، وذلك بخصوص أحداث وتبعات الثورات العربية المتتالية، وهي الظاهرة التي عرفت باسم «الربيع العربي»؛ فهناك من يرى أن الربيع العربي قد تم اختطافه من أيادي جيل الشباب ومن أهدافه الجميلة المعلنة التي بهرت العالم وأسرت خياله بشكل غير مسبوق.

فها هي الثورات تخطف باسم التيارات الدينية المتشددة، التي تفرض آراء «غريبة» على شعوبها بشكل يثير الذعر تارة والسخرية تارة أخرى، أو باسم قبائل وعشائر لا ترى سوى أفق ضيق يهتم بما يخص المكتسبات الخاصة بها فقط فتكون النظرة محدودة، ولكنها حتما باب فتنة سيؤدي إلى اشتعال الكل، فهكذا دوما يكون إشعال النار من مستصغر الشرر. وهناك الفئات الفوضوية التي استشعرت الخسارة الكبرى واتخذت فرصة الفوضى وفرصة الغموض لتثير القلق و«البلطجة» بشكل انتقامي من كل الفئات التي «انتصرت» وجنت الأرباح والمكاسب السياسية جراء الثورة وتبعاتها.

وهناك فريق آخر يرى أن ما يحدث أمر طبيعي جدا في التغيرات الكبرى التي تحصل في الشعوب والأمم والبلاد، تغيرات تؤثر على نفسيات الناس وتفقدها ثقتها في نفسها وتجعلها تهاب المجهول، فتكون ردود الفعل الأولية عنيفة ومضطربة، ثم سرعان ما تعاود الاستقرار والتأقلم وتنصرف للإنتاج وتتقبل كل التغيرات بشكل طبيعي جدا وتتعايش معه كما ينبغي. ولكن طبعا المشكلة الكبرى أن الاضطراب والقلق والخوف والشك أحاسيس قوية وطاغية جدا تعمي العقل والبصيرة، وتجعل الحكم على الأمور عصيا وصعبا، وبالتالي يحصل التخبط وتبعاته بطبيعة الحال كما هو حاصل.

كل وضع جديد أيا كان هذا الوضع فيه أطراف خاسرة وأطراف جديدة أخرى مستفيدة، وكل منهم يحاول إما تكبير أحجام الاستفادة، وإما في المقابل تقليص أحجام الخسائر.

هناك عناصر كثيرة ووسائل مختلفة تساعد على تأجيج الصراعات والخلافات الموجودة على السطح بين الأطراف، ولعل أبلغ وأهم وأدق وأخطر تلك الأسلحة والوسائل هي الإعلام من جهة، والاقتصاد من جهة أخرى. فالإعلام اليوم يستخدم بقوة وأمانة وخبث للي الحقائق وإبراز الشخصيات والتأثير على العامة حتى تغيب الحقيقة وتظهر قصة أخرى لصالح بعض الأطراف لدواع سياسية واقتصادية مختلفة. والاقتصاد هو العنصر والوسيلة الثانية المؤثرة، فلا يزال المال هو العنصر الأقدر على «حسم» المواقف وشراء الذمم وتغيير المواقف والمبادئ والشعارات بشكل واضح ومدهش.

ولا يكون الإنسان مبالغا إذا وصف مراجعات لبعض المتحمسين للربيع العربي في أوله أشبه بحالة ندم على ما حدث واسترحام على الأيام الخوالي ومقارنة كيف كانت الأمور وكيف أصبحت، وهو تماما ما يريده بعض الأطراف التي تخشى من النجاح «الكامل» لفكرة الربيع العربي كعنصر إصلاح تام وشامل وتغيير للمبادئ الهدامة التي أدت إلى ما آلت إليه الأمور بشكل مفاجئ ومذهل، كان لا بد من التعامل مع الأحداث بشكل مغاير لضمانة إفشالها التام والعمل على أن يكره ويخاف ويهاب الناس هذه الظاهرة التي بدأت جميلة، وأن يروا فيها كل ما هو همجي وقبيح وخطأ، والتشكيك في نياتهم وأهدافهم وغرضهم حتى يصبحوا بالتدريج في خانة العدو وخانة الخونة وخانة الضلال وخانة العملاء. إنها قوة الإعلام وقدرة المال على أن تغير وتبدل الحال إلى حال أخرى تماما.

الربيع العربي مهدد من أطراف مستبدة بأسماء مختلفة تسعى لقمع الحرية وإبادة الكرامة وسحق الأمل لأنها عاشت واستمرت في الاستبداد والجبروت والسلطة المطلقة عن طريق وسائل مختلفة وأسماء متغايرة ولكنها كلها تؤدي نفس الغاية والنتيجة دوما. لا يمكن أن يتحقق هدف الشباب الباحثين عن الكرامة والأمل والحرية، الذين كانوا يوما ما أشبه بمن كان يؤذن في مالطة، بأذان في البرلمان.

الربيع العربي لم يضع ولكنه يتعرض لحرب خفية وغير بريئة أبدا، وجب الحذر منها والتصدي لها. فالشعب العربي يستحق الكرامة والحرية، مثله مثل غيره من شعوب العالم.

[email protected]