النظام الاشتراكي الجمهوري العشائري

TT

البشر هويات وجذور وأعراق وشعوب وقبائل.. خلقوا هكذا، وتعارفوا من أجل أن ينصهروا في أمم. والأمة في اللغة الاتجاه؛ أي الطريق المفروض. وفي قوله تعالى «كنتم خير أمة أخرجت للناس»، وليس خير شعب ولا خير قبيلة.

الدولة المدنية أحلت الأمة محل القبيلة، والله مع الجماعة لا مع الفرد ولا مع الفرقة. وقد سارت الشعوب نحو الانصهار في بناء أممها. وعندما قام النظام العربي المعاصر طرح فكرة الوحدة حتى بالقوة، وادعى إقامة الدولة المدنية المطلقة، وأعلن إلغاء النظم العشائرية، ولم يعد يقبل ما هو أقل من الدولة الحديثة.

ولا شك أنه في الدعوة الظاهرية كان ذلك، لكن إخفاق النظام الاجتماعي والسياسي أحيا الفكرة القبلية والعشائرية في صمت، وأعاد الحقوق كل فريق إلى فريقه، وزادت المحسوبية والمناطقية في تغذية الروح العشائرية، كما حدث في تكريت وسرت، على سبيل المثال.

طرح صدام حسين فكرة «البعث» وشعاراته، ليس مذ أصبح رئيسا، بل مذ أصبح شابا.. ثم في أفظع امتحان إنساني وقيادي من نوعه، كيف تصرف؟ لقد فرَّ صهره، وربيبه المفضل وقريبه، حسين كامل المجيد إلى الأردن مع شقيقه، وصهره الآخر، صدام. رفع الرئيس العراقي حسين كامل من سائق في المخابرات إلى الأكثر نفوذا بعده. لكن بعد فراره وخيانته عام 1995، حلم بالحلول محل عمه في السلطة، ثم تهاوت أحلامه في شتاء عمان البارد، وقرر العودة مع شقيقه، وزوجتيهما وأحفاد الرئيس، وأعطاه الرئيس الأمان: أنا، كدولة وحكومة وقضاء، عفوت عنك.. في إمكانك الرجوع.

عاد الساذج المسكين فقيل له: صحيح أن الرئيس أسقط حقه الشخصي والحق القانوني، لكن العشيرة ترفض أن تسقط حقها. أرغم حسين وصدام كامل على تطليق زوجتيهما، لكي لا يفقد أحفاد صدام أبوين خائنين. والباقي تذكرونه.

وعندما شعر صاحب النظرية العالمية الثالثة لإنقاذ الإنسانية، بالخناق من حوله، استجار بالقبائل ودعاها إلى الدفاع عما كان يسميه الجماهيرية وحكم الشعب. لقد أمضى سنوات في ممارسة المحسوبية القبلية، والآن يريد المكافأة ورد الجميل.

ولا يمر يوم الآن إلا ونسمع عن حادث عند بدو سيناء؛ من خطف وفديات مالية. وكان هذا من قبل دأب القبائل في اليمن، وليس في بلد «23 يوليو» الذي حل مكانه «25 يناير». ماذا كانت تفعل الأنظمة العربية رافعة شعار التقدم والاشتراكية والدولة المدنية الحديثة.. ماذا كانت تفعل طوال نصف قرن؟ كانت تبحث عن ديمومتها. لجأ كل زعيم إلى عائلته وعشيرته وأقربائه وهو يرفع شعارات مأخوذة من قاموس الأمم. وفي النهاية، عاد العراقيون يخاطبون أنفسهم بـ«عشائر الشمال» و«عشائر الجنوب» و«عشائر الدنمارك».. وقال الرئيس لصهريه: قتلكما ليس حقي.. حق العشيرة.