بغداد الحزينة

TT

هناك مثل مصري ينطبق على جهود بغداد في الدعوة إلى قمة عربية في شهر مارس (آذار) المقبل يقول المثل «جات الحزينة تفرح مالقتلهاش مطرح»، وهو مفهوم بصيغته المصرية حتى لأهل بغداد.

الدعوة لعقد قمة عربية في مكان ما من الأرض العربية يعني أولا أن هذه العاصمة أو تلك تحوز قبولا واسعا أو كبيرا من الأطراف العربية الأخرى، وكثيرا ما ألغيت القمم في هذه العاصمة أو تلك، لأن البعض اعترض على عاصمة ما، كما القمة في بغداد التي تثير الكثير من الشجن، حيث عقدت قمة هناك وقت الانشطار العربي - بعد زيارة الرئيس الراحل أنور السادات للقدس - وقدمت فيها وعود كثيرة من المضيف، تحقق عكسها بعد حين، خاصة فيما يخص «لا يرفع سلاح عربي في وجه عربي».

ما لنا وللماضي، ولكن دعوة بغداد هذه المرة تريد أن يتحقق للحكم القائم فيها عدد من الأهداف الاستراتيجية، منها التأمين العربي على شكل الحكم القائم، ومنها تعضيد فكرة المحاصصة بين العراقيين، ومن الأهداف، أخرى ظاهرة وباطنة، إلا أن الوضع العربي يمر لسوء حظ بغداد وحكامها بأسوأ مرحلة انتقالية في العصر الحديث، فهناك نائب رئيس عراقي مطارد ومتهم بـ«الإرهاب»، وله مشايعوه ومؤيدوه وهم كثر، وهناك رئيس عراقي يكتفي من الرئاسة، كونه بعيدا عن المركز في أغلب أيام السنة، يرأس ولا يرأس، وهناك تدخل واضح في الشأن العراقي من الجارة إيران، ظاهر من خلال قوى عراقية مشايعة سياسيا لإيران أو خفية بواسطة أياد إيرانية مباشرة، هذا في الداخل العراقي.

في الجوار.. كيف تحضر سوريا القمة وهي محاصرة من أكثر من ثلثي دول العالم التي صوتت في الجمعية العامة للأمم المتحدة بالتمني على الرئيس بشار الأسد بالتنحي؟ وكيف تحضر وعلاقتها مع مجمل الدول العربية شائكة، أو لنقُل أكثر عدائية من خلال سقوط ذريع للمودة مع شخص الرئيس بشار الأسد، جراء القتل المبرمج للشعب السوري؟ ثم كيف تحضر مصر وهي حتى الآن من دون رئيس، وهي البلد العربي الأكبر والأكثر تأثيرا؟ وكيف تحضر تونس ورئيسها - حسب ما اتفق عليه - مؤقت ذو صلاحيات محدودة؟ وكيف يحضر السودان ورئيسه مطارد من محكمة العدل الدولية، وعرضة للقبض عليه في أي مكان يتاح القبض عليه فيه بسهولة، ربما بغداد المكان الأكثر جاذبية؟ ثم كيف يحضر رئيس ليبيا، وما زالت ليبيا من دون رئيس ولن يتاح لها قبل أشهر طويلة، هذا إن كنا في جانب التفاؤل؟ وكيف يحضر اليمن ورئيسه الجديد ما زال يواجه أصعب مرحلة انتقالية يمر بها اليمن، وهو من دون سند في الشارع، المنقسم بين رئيس سابق ورئيس في ذمة الغيب؟ هل أكمل السرد؟ أم نكتفي بالقول إن بغداد اختارت التوقيت غير المناسب للدعوة إلى قمة عربية.

ذلك هو حظ بغداد في اللقاءات الكبرى، يذكر البعض منا التحضير في السابق لقمة مؤتمر الحياد، وبعده المؤتمر الإسلامي، كلها لم تتحقق على أرض الواقع. إذا أضفنا إلى كل ما تقدم، فإن المشروع الحكومي الذي سوف يخرج من صلب عواصم ربيع العرب في الغالب سيكون مشروعا مناقضا لشكل الحكم في بغداد، حيث يرى هؤلاء أنه حكم طائفي في مجمله، ومحاصصة في أجمل أشكاله، وكلاهما لا يقبل من منظومات الحكم التي تتشكل في عواصم ربيع العرب، معطوفا على موقف بغداد الملتبس من أحداث سوريا حيث يمزق الرصاص صدور المتظاهرين يوميا في المدن والقرى السورية.

ما تقدم موانع الحضور الفعلي للأشخاص والدول، أما الموانع الأكثر صلابة، لو افترضنا أن الحضور يمكن أن يكون مجاملة بأشخاص وتمثيل دون القمة (الرؤساء والملوك)، أي أن مستوى التمثيل يكون أقل، فأي جدول أعمال سوف تدرسه القمة، والدول العربية قاطبة مشغولة بمهمات أخرى؟ فإما الدفاع عن نفسها أمام الربيع، كما هو في سوريا، أو مشغولة بالحراك العالمي حول الربيع وما بعده، فأية أجندة ستطرح في قمة عربية بمن حضر؟ وما هي المغريات السياسية التي يمكن أن تقدمها بغداد، وهي في الداخل منشغلة بآثار التنازع العميق حول السلطة والثروة، ومبلغ تدخل الجوار فيها عميق، في الشمال تركيا، وفي الشرق إيران.

ما أعجب منه هو لماذا تخرج الجامعة العربية التي نبتت لها بعض الأسنان مؤخرا لتقول نظرا لما يمر به الوضع العربي من تشابك فإن قمة بغداد سوف تؤجل حتى اتضاح ظروف المنطقة وتلاشي الضباب الكثيف من على سياستها!

آخر الكلام:

القبض على المدونين المصريين وتقديمهم للمحاكمة ظاهرة مثيرة للحيرة، وربما سابقة لإحلال حكم شمولي مانع للرأي الآخر بسلوك سياسي لا تختلف عنه!