سوريا.. نهايات مفتوحة

TT

كنت متشائما في بدايات الثورة السورية ليس شكا في قدرة أهلنا في سوريا على التضحية والبذل والصمود وهم يقدمون دروسا مسطرة بالدم للتاريخ، فكتبت «سوريا نهايات مؤجلة»، وعاتبني عدد من القراء على ذلك، لكنني كنت أعرف تماما أن النظام السوري المستند إلى إرث حزب البعث الطويل في إدارة وقمع احتجاجات من هذا النوع، وكيفية لعبه على تناقضات المرحلة بدءا بتناقض المجتمع الدولي حيال تحالفاته القديمة الجديدة، مرورا بالاستفادة من الحلفاء الاستراتيجيين وتحريكهم لافتعال أزمات تمهد الطريق لمزيد من القتل وليس أخيرا اللعب على ما يمكن تسميته «استثمار القاعدة»، حيث يمكن خلق مناخات صحية لنمو «القاعدة» عبر خرائب المدن غير الآمنة، والتغاضي عن الحدود غير الآمنة، وهذا بالتالي يوفر شرعيتين إضافيتين للنظام السوري، شرعية الرد والدفاع وقتال «القاعدة»، ومن ثم شرعية البقاء بسبب إدراكه العميق أن المجتمع الدولي والولايات المتحدة مهما تساهلوا في ورقة «استثمار القاعدة» من قبل الأنظمة التي لعبت بهذا الكرت، فلن يجازفوا بمخاطرة كهذه في سوريا بسبب الحليف الاستراتيجي إسرائيل وأمنها الذي يشكل أولوية في التعامل مع ملف الثورات والموقف من إيران وبشكل مضاعف آلية التغيير في النظام السوري.

إذن استطاع الشعب السوري أن يتجاوز النهايات المؤجلة إلى نهاية مفتوحة وقلقة ليس بفضل دعم الجامعة العربية الذي ساهم في إحراج النظام أكثر من ترتيب البيت السوري وفصائل المعارضة من الداخل، بل بفضل استمرار الاحتجاجات، حيث الثورة السورية هي «قلب الثورات»، ليس فقط للتضحيات العظيمة التي قدمها ويقدمها السوريون تجاه آلة القمع والقتل والمجازر الوحشية التي يقترفها النظام بدم بارد وبدعم من حلفائه في المنطقة والمجتمع الدولي؛ بل لأنها ثورة تجاوزت منطق الاحتجاجات التي طالت بلدانا أخرى، وتبين في بعض تجلياتها أنها ثورة ضد عائلة أو فرد أو حتى نظام لم يمتلك شكل الدولة بمعناها السياسي، في سوريا هناك ثورة تجاه الحق في البقاء على قيد الحياة، ثورة مدفوعة بالحد الأدنى من شروط الإنسان.

درس العراق القديم ودرس ليبيا الحاضر يتم استحضارهما باهتمام شديد في معالجة الحالة السورية على الأقل من قبل مراكز الأبحاث والمدونات السياسية، وإن كانت الولايات المتحدة إلى الآن لم تتخلص من ربقة الدعاية السياسية لأخطائها العريضة في العراق والتي مع الفارق النوعي بين المرحلتين إلا أنها في وعي السياسيين الأميركيين لم تكن إلا استبدالا لديكتاتور سني مستبد لكنه مستقل بنظام ديمقراطي شكلاني غير مستقل في إرادته السياسية بسبب تحالفه الذي يقترب من حدود التطابق بالخيارات الإيرانية.

في المقابل الدرس الليبي ما زال قيد الفحص حيث لم تتضح الصورة بعد وإن كانت تتجه نحو سياق مماثل للعراق لكن في شكل أكثر سوءا - وهذا ما لا يتمناه أحد - فالأقلية الواعية غير مؤثرة والميليشيات المتصارعة تتضخم مدفوعة بهويات صغيرة أنويّة حيث «أنا» القبيلة والجهة والمجموعات القتالية.

بالطبع ليس من قبيل التشاؤم القول إن كل الفرص التي أتيحت سابقا للنظام السوري - وهو لم يكن مؤهلا لاستثمارها - قد نفدت، لم يعد الحسم ممكنا ولو عبر المزيد من القتل والدمار، كما أن الفيتو الروسي والصيني لم يعد مجديا حيث تخطت الثورة أسوار السيطرة عليها إن سياسيا أو بمحاصرتها على الأرض، وربما كانت الوحشية التي مارسها النظام في حمص نقطة فاصلة في النهايات المفتوحة التي لا يمكن التنبؤ بما تصل إليه.

نحن أمام احتمالات عديدة، والصورة تبدو مرعبة أكثر من أي وقت مضى، ربما هذه النقطة الوحيدة التي نجح النظام السوري في رسمها بدقة وهو ما يتقنه تماما، فتحول سوريا إلى مستنقع دموي عبر اقتتال عدة أطراف داخلية بدعم أطراف خارجية ليس إلا سيناريو محتملا لعدة مشاهد مرعبة، فهناك احتمال أيضا لمزيد من التدخل بين الأطراف الدولية وتحويل سوريا إلى ساحة معركة، كما أن المطالبة بالتدويل قابلها النظام السوري بالركض نحو الصين وروسيا وهو بمعنى آخر تدويل بصيغة سياسية، على الأقل سيضمن النظام إمدادات السلاح والفيتو الحاضر في أي محاولة لاقتراح حلول عبر مجلس الأمن.

الأكيد أن «الوضع السوري» بما يمثله من رعب وقلق لكل المراقبين تجاوز أيضا الدعاية السياسية ذات الفواصل الإعلانية بنكهة إنسانية التي تستخدمها قناة «الجزيرة» على طريقة الـ«تيك أواي»، وهي لعبة خطرة جدا تستلزم قراءة تفصيلية لعلاقة الثورات العربية الحديثة بالإعلام الموجّه والمتحيز لها قصة أخرى أعود إليها.

[email protected]