«ما وقتا»!

TT

التقينا في الطائرة العائدة إلى دمشق.. كان هو عائدا من موسكو وكنت أنا راجعا من باريس. كنا في حالة يرثى لها، فالاتحاد السوفياتي انهار قبل أيام، ونحن، الشيوعيان السابقان، نشعر أن الدنيا تتغير بسرعة تصعب السيطرة عليها، رغم اختلاف موقفينا، حيث اتخذت طيلة فترة ما بعد الستينات موقفا نقديا حيال السوفيات وفرعهم المحلي: الحزب الشيوعي السوري بزعامة المرحوم خالد بكداش، وكان هو ضد نقدهم، بحجة أنه «ما وقتا»، وأن المعسكر الرأسمالي سيفيد من نقدنا، فلا بد إذن من أن نعطي الأولوية لانهياره قبل قول رأينا بصراحة في السوفيات وما يتفرع عن سياساتهم من مسائل وقضايا.

وكنت قد نشرت دراسة طويلة عن حال الشيوعية العربية في سوريا خلال منتصف الخمسينات - أوائل الستينات، بمناسبة وفاة معلم وصديق كبير هو إلياس مرقص، الذي كان أعظم المتمردين العرب على السوفياتية نهجا وممارسة. بعد السلام، دخلنا في حديث حول التطورات التي جرت، فإذا بصديقي يقول لي: هذه الدراسة التي نشرتها، ألا ترى أن وقتها ليس الآن؟ رأى الذهول على وجهي، فقال مكررا قوله بصوت خافت وكأنه يخاطب نفسه: والله «ما كان وقتا». قلت: عندما كان هناك اتحاد سوفياتي وكنتم تخافون عليه من الإمبريالية، كان ثمة مبرر، ولو غير مقنع، لأن تقولوا عن أي اقتراب من الحقيقة أو مقاربة لها «ما وقتا». أما الآن، وقد انهار كل شيء، فعلى ماذا تخافون؟! ومتى سيكون وقتا، إن كان وجود وغياب السوفيات يسوغان القول بأنه «ما وقتا»؟!

أستعيد هذه الذكرى بمناسبة أحاديث كثيرة عن الثورة الشعبية السورية تتكرر فيها كلمة «ما وقتا». يقول صوت غالب على الساحة السياسية السورية «ما وقتا» بمجرد أن تطالب بتصحيح مسار يبدو اعوجاجه واضحا لأي عين، أو دعوت إلى مبادرة تخرج عن المألوف والعادي وعن ظاهر الأمور، أو ناقشت مسلمة من مسلمات العقل غير النقدي الكثيرة، أو لمحت ولو من طرف خفي إلى أخطاء ارتكبتها هذه الجهة أو تلك، أو لاحظت غياب توجه أو تيار كان عند بداية الثورة فاعلا ومؤثرا ثم غيبته قوى وتوجهات لم تكن موجودة في بداية الحدث، لكنها اكتسبت بسرعة نفوذا كبيرا ومتعاظما، دون أن يكون لك الحق في أن تسأل عن مصادره ومساراته وتعبر عن خشيتك من نتائجه. في هذه الحالات جميعها، وغيرها كثير، ستجد من يقول لك «ما وقتا»، حتى إن أنت أثبت بالدليل القاطع وجود أخطاء لا بد من تجاوزها، وكان قصدك تقوية الحراك الشعبي كي لا تقوضه أو تضعفه أو حتى تقضي عليه.

بدأ الحراك سلميا ومجتمعيا ووطنيا وتركزت مطالباته على الحرية وما يتفرع عنها من مسائل ووقائع. واليوم، لا يجادل أحد في وقوع انزياح ما أبعده بدرجات متفاوتة عن هذه المفردات، التي يجب أن يبحث المرء بالضرورة عن أسباب ذهابها في هذا المنحى أو ذاك، خاصة إن كان يؤثر على وحدة الشعب ومدنية وعدالة قضيته. لكنك ما إن تفعل ذلك، حتى يشهر بعض سامعيك سلاح «ما وقتا» في وجهك، ويطلبون منك الكف عن طرح الأسئلة، كي لا يفيد النظام من مواقع ضعف الثورة والشعب، كأن قوتهما ترجع إلى إخفاء هذه العناصر وليس إلى التخلص منها. والنتيجة، إما أن تسكت أو أن توضع خارج الموقع الذي اخترته لنفسك كوطني يحب شعبه ويتبنى حقوق مواطنيه جميعهم، ويتطلع إلى مساعدتهم على نيل حريتهم كاملة غير منقوصة، مع ما قد تسببه عقلية «ما وقتا» من إضعاف نهج وطني ما إن يبدأ بالدعوة إلى تقويم مسار من المسارات، حتى يجد نفسه مهددا بالخروج على ما يسمونه «العمل الوطني»، مع ما يترتب على ذلك من ضياع أي تأثير وأي فاعلية لرأيه أو موقفه، فيجد عندئذ أن من الخير له ملازمة الصمت وهو يقول لنفسه «ما وقتا»، رغم ما يسببه ذلك من نتائج بالغة السلبية، قد تكون قاتلة، بالنسبة إلى العمل الثوري ومصالح الوطن العليا، وموقع الشعب من الصراع الدائر اليوم حول مصير البلاد والعباد. وكان خليقا بالثوريين الابتعاد عن الذين يتبنون نهج «ما وقتا»، وعمن يصمتون عليه، وأن يبينوا لهم بكل صراحة نتائج مواقفهم السلبية، ويحملوهم المسؤولية كاملة عنها، دون أن يقولوا هم لمن ينتقد سلوكهم ويذكرهم بضرورة أن يتبنوا هم أنفسهم موقفا نقديا من أفعالهم، ويهجروا تماما ونهائيا عقلية: «ما وقتا».

يصعب الحديث اليوم خارج هذه العقلية عن أي مسألة من مسائل ثورة شعبية هي حدث تاريخي فريد ونوعي يتوقف عليه مصير سوريا والعرب وربما دول كبرى - روسيا - لعقود كثيرة قادمة. وبما أن هذه العقلية سائدة في كل مكان ولدى جميع الأطراف على وجه التقريب، فإن غياب نقيضها: العقل النقدي، وحضورها هي، يلعبان دورا جد خطير في فرش درب السوريين بعراقيل لا حاجة بهم إليها، تتفاقم خطورتها وتتصاعد من يوم إلى آخر، دون أن ينصرف أحد لمعالجتها والحيلولة دون توسعها وتجذرها في واقعهم الثوري.

في مألوف التاريخ، لا بد لانتصار الشعوب من عقلية نقدية تتابع الوقائع وتواجه المعضلات التي تعترض نضال المواطنين في سبيل حريتهم، ولا تسهم عقلية «ما وقتا»، التي تؤجل المشكلات وحلولها وترفض النظر بروح ثورية إلى الواقع، في تعويق انتصارها وربما في هزيمتها.. لذلك تفشل مشاريعها، وتغرق في أوهام تجهل غالبا كيف تخرج منها، مع أنها تعطل قدراتها، وتحول بينها وبين الإمساك بمفاتيح واقعها والتحكم بمساراته، وتفشل بالتالي من حيث كانت تعتقد أنها تقفز من فوق الأخطاء، وتنتصر!