المقال الباكي

TT

يقال إن الخليفة الراشد (عثمان بن عفان) رضي الله عنه، كان رجلا بكّاء، فهو ما إن يقرأ القرآن أو يقف على المنبر ليخطب حتى يتذكر رسول الله، فيجهش بالبكاء وتبتل لحيته من غزارة دموعه.

وهذا من وجهة نظري بكاء محمود، غير أن البكاء غير المحمود هو بكاء (الدلع)، والتظاهر بالظلم لجلب واستدرار العواطف، مثلما يفعله بعض النساء وبعض الرجال كذلك.

وبعيدا عن هذا وذاك، أعرف رجلا كثير التشكي، ويا ليته يقصر شكواه على الكلام فقط، ولكنه ما إن يتفوه بجملة أو جملتين حتى (يدّنها بكوه)، وأغدو أمامه كالأبكم أو كالأطرم، لا أدري هل أربت على ظهره أو أمده بمناديل (الكلينكس)، أو أشد من أزره؟!

لهذا كنت على الدوام أتحاشاه، لا كراهية مني له، بل بالعكس فهو إنسان نبيل وعطوف وله مكانة رفيعة في نفسي، ولكن ليس لدي جَلَد وصبر على جبر الخواطر، صحيح أنني أحاول ذلك مرة ومرتين، ولكنني بعد ذلك سرعان ما يرتفع الضغط عندي، وأود لو أنني حشرت قبضة يدي في فمه لكي يسكت (وينطم).

وعلى الرغم من أن ذلك الرجل قد فتح الله عليه، وهو في وضع اجتماعي ومادي وعائلي وعلمي وصحي أفضل مني بمراحل، فإنه سوداوي النزعة.

ولا أنسى في آخر مقابلة معه، عندما قال لي وعيناه مغرورقتان بالدموع: إن كل يوم يمر بنا يا مشعل إنما يقربنا من القبر، وعلى هذا فكل يوم هو يوم أسوأ من سابقه، لأنه أقرب إلى النهاية التي نرقبها. عندها جفلت، فعلا جفلت، بل إن (فرائصي) كلها وعن بكرة أبيها تراعدت وأخذت تتصافق، لأنني بطبعي مقبل على الحياة غير مدبر، وأنظر إلى كل يوم جديد وكأنه مكسب جديد، ولا أفتح عيني في كل صباح، إلا وأقذف باللحاف على طول يدي، ثم أقفز من فراشي فرحا وصائحا كأي ديك لعوب قائلا بصوت مسموع: الحمد لله أنني ما زلت على قيد الحياة.

وليس معنى هذا أنني إنسان عصي الدمع (كأبي فراس الحمداني)، ولكن بكائي حزن دفين في أعماقي أحتفظ به فقط لنفسي، ولم أبكِ رغما عن أنفي، ومن أعماق قلبي إلا أربع مرّات: الأولى عندما مات والدي، والثانية عندما مات أخي الصغير، وهو في عز شبابه، والثالثة عندما مات أعز أصدقائي، والرابعة عندما مات الابن الوحيد لأختي، ولا أدري متى سوف تأتي الخامسة؟! ولكنني أدعو أن يأخذ الله عمري سريعا قبل أن تأتي.

ولكي نخرج قليلا من هذه البوتقة الحزينة، فيقال، حسب الإحصائيات التي أجراها قسم علم النفس بجامعة (تيلبيرج) الهولندية: إن الإيطاليين هم أكثر الرجال بكاء في العالم، وإن أقلهم هم رجال الطوارق في الصحراء الكبرى، وأكثر النساء بكاء في العالم هن النساء البلجيكيات، وأقلهن بكاء هن النساء النيجيريات.

وما زلت أذكر ما قاله عازف أعمى مشهور يقال له (لويس)، عندما أخذ يعزف في أحد مسارح باريس، وما إن انتهى حتى وقف الحضور يصفقون له لمدة عشر دقائق كاملة من روعة عزفه، فوقف يتكلم ودموعه تسبق كلماته قائلا: لم أبكِ في حياتي إلا ثلاث مرات؛ الأولى عندما فقدت بصري، والثانية عندما تعلمت طريقة (برايل) في حروف الكتابة، والثالثة في هذه الليلة.

والآن أودعكم وأنا (أتعبّر).

[email protected]