البشر عندما يتحولون إلى منصات إطلاق للسباب والشتائم والأوحال

TT

السياسة لا تعرف الشتائم واللعن والسباب، بل تعرف فقط الهجوم الحاد على الخصم السياسي وذلك بعرض مواطن الخطأ في منهجه أو أفعاله لإثبات أنه عاجز عن تحقيق إنجازات تدفع المجتمع إلى الأمام. ينطبق ذلك على كل أنواع السياسات والحكومات. كل ذلك لا ينفي بالطبع أن الشتيمة وقلة الأدب وإلقاء القاذورات على الناس، هي أسلحة يستخدمها بعض الناس في مجالات عديدة من مجالات الحياة بهدف تدمير أعدائهم وليس الانتصار عليهم. ولأنني عاشرت وخبرت واستمعت لكل أنواع الشتائم والسباب التي استخدمتها الحكومات المتعاقبة في المنطقة العربية في النصف قرن الأخير على الأقل، فإنني أستطيع القول باطمئنان إنها السلاح الوحيد على وجه الأرض الذي يضمن الهزيمة لمن يستخدمه سواء كان فردا أو جماعة أو دولة.

هناك أخطاء شائعة تشوب الديمقراطية الوليدة في مصر، ومنها عدم القدرة على التمييز بين الخطأ الذي يتطلب الاعتذار، والإهانة المتعمدة الواضحة التي تستلزم العقاب. كما أن هناك خلطا شائعا بين حدة الألفاظ التي تسمح بها السياسة في حدود ضيقة، والشتائم الناتجة عن ضعف في التربية والعجز عن احترام البشر. والقاعدة الوحيدة التي أراها حاكمة في هذه الإشكالية، هي ذلك المصطلح الشعبي الشهير «اللي بيحترم، بيحترم نفسه» يا له من اكتشاف عبقري في علم النفس السياسي والاجتماعي، أنا أحترمك ليس لما تحظى به أنت من مزايا أو مكانة رفيعة، بل لأنني أشعر بالتقدير والاحترام لنفسي. هذا هو جوهر العلاقة بين الأنا والآخر.. الاحترام.

هكذا ننتقل نقلة أخرى نكتشف فيها أن الشتائم بحد ذاتها ليست المرض، بل هي العرض لمرض أخطر يهدد المجتمع ذاته وهو انعدام عاطفة اعتبار الذات وهي العاطفة التي لا بد من وجودها في حالة نشطة لاحتلال مكان على الأرض بين بقية سكانها. لأننا إذا انتقلنا إلى التطبيق العملي سنكتشف أن كل أنواع العمل تستلزم احترام الآخرين الذي هو في جوهره احترام النفس. من المستحيل أن أصدق أنك قادر على إنتاج سلعة ما يرضى عنها الآخرون بينما أنت عاجز عن احترامهم. من المستحيل أن تحترم قوانين الآخرين وتقاليدهم بينما أنت عاجز عن احترام قوانينك. وإذا تصورت أن عددا من الشتامين المعتدين المبعثرين هنا وهناك، لا يشكل ظاهرة يمكن فهمها على النحو الذي أوردته، فإنني أقول لك، راجع أماكن وجودهم خلف الكاميرات وتحت قبة البرلمان وفي أعمدة الصحف والمجلات، هم بالفعل يمثلون عينة صادقة تثبت المرض العام الذي يجب أن نتصدى له بكل قوة.

لست أطلب من المشتغلين بالعمل السياسي التنازل عن حقهم في كشف ما يرونه من أخطاء عند خصومهم، أنا أطلب منهم فقط الحذر من تحويل غريزة العدوان عندهم إلى ما يتصورونه نشاطا سياسيا. سأورد الآن مثالا قديما لاستخدام الكلمات الحادة في العمل السياسي بغير الانزلاق إلى جريمة السباب، المثال من مصر القديمة ولقد مر عليه نحو أربعة آلاف عام (شكاوى الفلاح الفصيح، البردية محفوظة في متحف برلين) هذه هي أقدم وثيقة معارضة سياسية على وجه الأرض. لقد تعرض أحد الفلاحين لحادث سرقة، استولى مسؤول كبير على عدد من حميره بما عليها من حمولة ثمينة، فذهب يشكوه لمسؤول أكبر، غير أن الأخير لم ينصفه فقال له من بين ما قال: «اقضِ على قطّاع الطرق، دافع عن الفقير، لا تجعل من نفسك حاجزا في وجه الشاكين، إذا كنت تنشد السعادة فاسلك طبقا للمثل الذي يقول.. إن فعل الحق أشبه بعملية التنفس للخياشيم. اضرب من يستحق الضرب، عندئذ لن يتفوق عليك أحد في الحق، هل ترغب في إطالة أمد الظلم؟ لا تجزِ الخير بالشر، ولا تضع أحدهما مكان الآخر، إن كلماتي تتصاعد بأكثر مما تتصاعد رائحة الياسمين. بينما أنت لم تقدم لي إجابة حتى الآن. لا تكذب فأنت عظيم.. لا تكن نزقا فأنت صاحب عقل راجح، لا تقل الأكاذيب فأنت كفتا الميزان، إذا أشحت بوجهك بعيدا عن مرتكبي العنف، من سيقضي على هذه الأعمال التي تجلب العار. انتبه.. أنت راعٍ لا يحمي قطيعه من الكارثة».

يبدو أنه لا جديد تحت الشمس، الفلاح يشكو من أعمال عنف يرى أنها تجلب العار، ما أشبه الليلة بالبارحة منذ أربعة آلاف عام. غير أن الضغط المتواصل على أعصابه الذي يشكله تجاهل المسؤول لشكواه، يدفعه إلى زيادة الجرعة بغير أن يقع في هوة قلة الأدب وذلك باستخدام صور أدبية بليغة «اسمع.. أنت مدينة بلا حاكم، وجماعة بلا مسؤول، وسفينة بلا ربان، وفصيلة من الجنود بغير ضابط مسؤول.. اسمع، أنت قاضٍ يسرق وأنت رئيس مدينة يحصل على الهدايا، وأنت محافظ مكلف بالقضاء على السرقة فأصبح مثالا يحتذى بين اللصوص» لا أعتقد أن تاريخ المعارضة السياسية عرف مثالا أكثر قوة وشمولا من هذه الكلمات. ينقصني فقط أن أقول لك إن المسؤول الكبير كانت لديه أوامر من الملك بأن يمتنع عن حل مشكلة هذا الفلاح لكي يخرج كل ما في جوفه من أفكار وآلام وأحزان أو كما نقول بالعامية المصرية «عشان يجيب آخره».

سنوات طويلة وأنا أكتب هنا في هذا المكان وفي أماكن أخرى محذرا من إشاعة إعلام الحرب بغير حرب، وهو ما يترتب عليه - وترتب عليه فعلا - ارتداد حالة الكراهية إلى صدورنا جميعا. كل أعدائنا الذين نحاربهم إعلاميا فقط، لا وجود فعليا لهم، فكان من المحتم بعد أن اكتشفنا ذلك أن يتخذ كل منا من الآخر، أي آخر، عدوا. عشرات ألوف وربما مئات الألوف من الشبان الذين تربوا لأعوام طويلة على وجود «العدو» وحتمية تدميره، عندما أتيحت لهم الفرصة للخروج إلى الشارع للتعبير عن رغباتهم التي تم كبتها طويلا، لم يجدوا إلا أنفسهم فبدأوا بالعدوان على أنفسهم.

غير أني لا أغفر لشاب وصل إلى البرلمان أن يشتم من يعارضهم، فمعنى ذلك أنه وصل إلى ذلك المكان بغير قضية حقيقية، كما لا أغفر لكاتب أن يشتم خصومه أو من يرى أنهم خصومه لأنه بذلك يضيع الحقيقة عمدا كما يضيع وقت الناس. سؤال أخير: إذا كان لكل نشاط بشري معنى وهدف يمضي بالناس إلى الأمام في المحصلة النهائية، فما هو المعنى وما الهدف من هذه الظاهرة، الشتيمة والسباب وإلقاء الأوحال على الآخرين؟

إنه العجز عن مواجهة تحديات العصر، الفشل في العثور على مكان لائق بين الأمم ، أما الهدف فهو تفعيل آلية دفاعية لحماية الذات. الآخرون لديهم الوسائل التي يحمون بها أنفسهم، وأنا عاجز عن تحصيلها أو صنعها.. ليس لدي شيء مما عند الآخرين.. ماذا أفعل لكي أظل موجودا على الأرض.. أشتمهم طبعا.. لا بد أن أسبب لهم قدرا من الألم لا يقل عما أشعر به أنا.. حضرتك شايفني أعرف أعمل حاجة تانية؟