سوريا: استفتاء على أسلوب القتل

TT

إذا قل ماء الوجه قل حياؤه

ولا خير في وجه إذا قل ماؤه

(صالح بن عبد القدوس)

دُعي السوريون، بلا خجل، أمس إلى استفتاء دستوري على وقع القصف المدفعي والصاروخي ونداءات الاستغاثة في عشرات المدن والقرى في طول سوريا وعرضها.

بعد مجزرة متطاولة تقترب اليوم من إكمال سنتها الأولى حصدت عشرات الألوف من القتلى والجرحى، وأخذ المعدل اليومي للضحايا يتجاوز الـ100 قتيل، يتوقع الحكم في سوريا أن يأخذ السوريون أولا، والعالم ثانيا، على محمل الجد استفتاء لا يقدِّم لهم إلا تعديلا سطحيا على طريقة القمع والقتل.

قتل سريع. قتل بطيء. قتل نفسي. قتل للكرامة. قتل للأمل. قتل بسلاح «الشبيحة». قتل بسلاح جيش فئوي...

هناك خيارات كثيرة يطرحها الاستفتاء على «الدستور الجديد» المقترح، الذي يحمل – ولو عن طريق المشورة – لمسات القاضي اللبناني سليم جريصاتي، المعين بالأمس وزيرا بديلا في الحكومة التي شُكلت برئاسة نجيب ميقاتي، والتي يؤكد السيد حسن نصر الله في كل مناسبة أنها مطلوبة وضرورية بالنسبة له... مهما كان الثمن.

لمن لا يعرف جريصاتي يكفي القول إنه المستشار القانوني السابق لرئيس الجمهورية اللبناني السابق إميل لحود فيما عُرف بـ«عهد الجهاز الأمني السوري اللبناني»، وعضو «المجلس الدستوري» الذي كانت له بصمات لا ينساها اللبنانيون في تسخير القضاء للأمن. وهو راهنا المستشار القانوني الفعلي لـ«حزب الله»... والعضو الأحدث عهدا في تكتل النائب ميشال عون، الذي كان سيضم العميد فايز كرم المُدان بالاتصال بإسرائيل، فيما لو فاز كرم في الانتخابات النيابية الأخيرة.

لمسات جريصاتي القانونية على «الدستور الجديد» لسوريا، تبشرنا بالكثير عن المستقبل الذي يعد النظام السوري به شعبه الصبور البطل... آخذا في الاعتبارات آراءه في الشأن الوطني العام والخيارات الإقليمية المصيرية. ولكن لماذا نستغرب وصول مهزلة الاستخفاف بعقول الناس وكرامتهم ومصائرهم إلى هذا الحد، طالما أن عدة عوامل تشجع مختلف مستويات «شبيحة» الحكم في دمشق؟

بالأمس، تمخض جبل مؤتمر «أصدقاء سوريا» في تونس – علنا على الأقل – عن جملة من فئران التمنيات بجانب اللفتات التي لا تردع... ولا تسمن ولا تغني من جوع. وقبله وَرَد على لسان كل من الجنرال مارتن دمبسي، رئيس الأركان المشتركة الأميركية، وآلان جوبيه، وزير الخارجية الفرنسي، وآندرس فوغ راسموسن، أمين عام حلف شمال الأطلسي «ناتو»، كلام أقل ما يقال فيه إنه مُحبِط... ولكن يجوز أيضا النظر إليه على أنه تواطؤي وتآمري بامتياز.

ما أسمعه وأقرأ عنه أن لدى حكومات الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة مستشارين متخصصين في علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الإنسان، متعاقدين ومتفرغين، يقدمون النصح والتقديرات لأصحاب القرار. وبناء عليه أتوقع أن لدى القيادتين في واشنطن وباريس فكرة واضحة عن نفسية الرئيس السوري بشار الأسد، وطريقة تفكيره، وطبيعة ردات فعله.. إلخ.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن كلام دمبسي قبل أيام في مقابلة تلفزيونية على قناة «سي إن إن» – أكرر في مقابلة تلفزيونية وليس في جلسة استماع في الكونغرس عليه أن يقول فيها كل ما يعرفه – أنه «من السابق لأوانه اتخاذ قرار بتزويد حركة المعارضة في سوريا بالأسلحة، لأنني أتحدى أي شخص أن يوضح لي، وبشكل لا يقبل الجدل، طبيعة المعارضة السورية في الوقت الراهن».

وقال أيضا إن أي تدخل محتمل في سوريا «سيكون صعبا للغاية، وأعتقد أن الطريق المتبع حاليا والذي يقضي بالعمل لإيجاد توافق دولي (ضد سوريا) هو الطريق الصحيح، وليس اتخاذ قرار بالتدخل من طرف واحد». ولزيادة طمأنة «شبيحة» دمشق، قال – لا فض فوه –: «سيكون خطأ كبيرا الاعتقاد بأن سوريا هي ليبيا أخرى».

جوبيه، أيضا، أدلى بدلوه قبل التوجه إلى تونس مستبعدا تماما أي حل عسكري في سوريا، وهذا مع أنه لم يكفّ منذ أشهر عن مهاجمة النظام السوري... مبشرا بأنه وصل إلى نهاية الطريق. بل إنه وجه كلاما «عنتريا» فارغا بعد مقتل المصور الفرنسي ريمي أوشليك، مع الصحافية الأميركية الشهيرة ماري كولفن، في بابا عمرو بحمص.

وطبعا مَن يتابع الأخبار، يعرف أن فوغ راسموسن، وهو رئيس وزراء يميني دنماركي كانت له مواقف غير محمودة إبان فترة حكمه تجاه الإسلام والمسلمين، كرر الكلام عن أن «الحلف لا يعتزم التدخل في سوريا حتى في حالة صدور تفويض من الأمم المتحدة لحماية المدنيين»، ودعا إلى «إيجاد حل إقليمي»، كما أشار إلى أن «الحلف عمل بموجب تفويض من الأمم المتحدة لحماية المدنيين في ليبيا، وحصل كذلك على دعم نشط من قبل دول عربية، لم يتحقق أي من هذين الشرطين في سوريا».

بصراحة لو كنتُ الرئيس السوري – بنفسيته وشخصيته – وأتمتع بالدعم الدبلوماسي والعسكري من روسيا والصين وإيران، وسمعت مثل هذا الكلام... لفعلت بالضبط ما يفعله اليوم. لارتكبت مزيدا من المجازر، ونكّلت بشعب جرت بيني وبينه أنهار من الدماء والأحقاد.

أصلا بشار الأسد ما أقام للشعب السوري وزنا في يوم من الأيام، بل حصل على الرئاسة بالوراثة وتعديل دستوري فوري «غبّ الطلب» للتعجيل بتمرير الوراثة. وهو مقتنع بأنه «الرئيس القدر» لسوريا، الذي لولاه لضاع الشعب وأبيدت الأقليات، وإذا كان لنا تصديق السيد حسن نصر الله... لانتهت المقاومة وسادت إسرائيل!

هذه بالضبط هي الرسائل التي يتلقاها اليوم بشار الأسد... ولا يُلام إطلاقا إذا فهمها كما يفهمها. إنها رسائل سكوت وتواطؤ وتشجيع ضمني على مزيد من المجازر.

لا أعتقد أن شعبا، عربيا أو غير عربي، قدّم خلال السنوات الخمسين الماضية من بطولات توازي نصف ما يقدمه رجال سوريا ونساؤها وأطفالها. ولم أر شعبا يعاني من إصرار هذا العدد من المتواطئين والمتآمرين – وكذلك المخدوعين بحقيقة نظام دمشق – على خذلانه...

ولكن، بعيدا عن العواطف أعتقد أن الصورة باتت واضحة. نظام دمشق ما عاد «سيد نفسه»، وربما فقَد السيادة على نفسه منذ انتهى حافظ الأسد «الحقيقي» خلال السنوات الأخيرة من حكمه... قبل وفاته.

هذا النظام اليوم نظام تابع لإيران، وهو مربوط ومطلوب منه أن ينفذ مشروعا فئويا تفجيريا وتقسيميا على مستوى المنطقة. وهو، بخلاف كل الأكاذيب عن العروبة والعلمانية والتحرير والممانعة والعداء لإسرائيل، يراهن على خيارين لا ثالث لهما: الأول هو الهيمنة الإيرانية المطلقة على منطقة شرق المتوسط – بموافقة إسرائيلية ضمنية – باسم حماية الأقليات، والثاني تبرير التقسيم... تحت ذريعة حماية الأقليات من هيمنة الأصولية السنّية، وهذا أيضا، برضا إسرائيل ومباركتها.

إذا كان كلام دمبسي وجوبيه وفوغ راسموسن قد قيل من قبيل التواطؤ التآمري على السوريين... فهذا هو تفسيره المنطقي. أما إذا قد جاء عن طريق الخطأ فإنه إذ ذاك خطيئة كبيرة ما كانوا مضطرين لاقترافها، يصدُق معها قول الداهية الفرنسي تاليران: «أسوأ الأخطاء هو ذلك الذي لا يكون اقترافه ضروريا».