رسالة مستعجلة إلى الرئيس

TT

القطاف الثالث والأخير من كتاب «أشخاص حول القذافي». أكثر ما ضاقت به صدور الناس منذ ظهوره هو افتقاره إلى الأخلاقيات العامة. رأى البعض في خطابه ولهجته ما هو أسوأ من الجريمة الدولية التي يمولها. كان الناس حول العالم يعادون السياسات الأميركية، لكن عندما دفع المتظاهرين إلى شوارع طرابلس يرفعون لافتات كتب عليها «طز في أميركا» خجلت الصحف العربية، ومنها، أو في طليعتها، «الشرق الأوسط» من نقل هذا التعبير السوقي.

بعد مقتله قالت فتاة من طرابلس لـ«العربية»: «لقد تنفسنا الصعداء. فقد أصبحنا نخجل من السفر إلى الخارج والقول إننا ليبيون». لم يكن يتوقف عند أي حدود أو أي قواعد أو ضوابط. أراد أن يؤدب العالم أجمع ولكن بطريقة خالية من أي أثر لمفهوم الآداب.

كان رئيس الكونغو – زائير، جوزيف موبوتو، رجلا موصوفا بالفساد والتهتك واللاإنسانية. كما كان معروفا أنه صنيعة الغرب ورجله وصنيعة شركات المناجم التي سيطرت على الكونغو قبل الاستقلال وبعده. وكانت كل صحف العالم تكتب هذا الكلام وتسخر من خزعبلات «المارشال»، (مشير بالعربية) وعصاه، ومن بين الكاتبين المخلص لكم دوما.

لكن حتى اللغة الصحافية لها حدودها وأصولها. وأما الدبلوماسية فلا حدود لحدودها ومقتضياتها ووسائل خطابها. يروي عبد الرحمن شلقم، أن القائم بالأعمال الليبي لدى زائير تلقى برقية عاجلة من معمر القذافي لنقلها إلى موبوتو. توجه إلى القصر الرئاسي بصحبة مترجم. وبعدما قدم له الشاي طلب منه الرئيس أن يقرأ الرسالة فانطلق يقرأ دون أي مقدمات: «أنت رجل فاسد، سارق، عميل، مجند للإمبريالية والصهيونية، خائن للقضايا الأفريقية، سيقتص منك شعب الكونغو، فأنت المجرم الأكبر الذي قتل أحد رجال أفريقيا العظام، باتريس لومومبا».

يضيف شلقم «بعد أن أكمل الدبلوماسي الليبي قراءة معلقة الشتائم والإهانات والتجريح والتجريم، صمت الرئيس قليلا ثم ضغط على جرس بقربه، فدخل أحد مساعديه. همس الرئيس في أذنه فهرول هذا خارجا، وبعد ثوان دخل أربعة من الرجال الغلاظ الشداد وانهالوا على القائم بالأعمال بالضرب واللكم، بالأيدي والأرجل، حتى غاب عن الوعي. ذلك كان رد موبوتو الوحيد على رسالة العقيد».

فلندع كل شيء جانبا: الآداب واللياقات والدبلوماسيات. ألم يحسب الأخ القائد حسابا لما سيكون عليه حال مبعوثه إلى رئيس الكونغو؟ مساكين كانوا سفراؤه في معظم الأماكن، فأي نوع من العمل «الدبلوماسي» قد كلفهم؟ أكرر هنا أن أفظع ما فعله أنه أنشأ أولاده على هذا السلوك السوقي.

آخر جملة قالها سيف الإسلام القذافي وهو يغادر طرابلس، كانت ذلك القول المأثور الذي أطلقه والده: «طز في المحكمة الجنائية». ها هو الآن في سجن مظلم ما، يشتهي، ضمنا وعلنا، لو يحال إلى المحكمة الدولية. القانون أكثر رأفة هناك.