حيث نام وأفطر

TT

صار جورج أورويل أشهر كاتب بريطاني في القرن العشرين. تطبع كتبه الآن ويعاد طبعها.. يدرّس في المعاهد والجامعات وتقدم عنه الأطروحات في كل اللغات. لكنه بدأ الحياة مشردا معدما تحت خط الفقر والعدم. ولم أكن قد قرأت من قبل «مفكراته»، ما بين عام 1931 و1949. وسوف أنقل إلى جنابكم نموذجين منها؛ الأول عن قعر التشرد في ساحة ترافلغار، والثاني عن مراكش (غدا) في أواخر الثلاثينات:

«21-8-1931: في اليوم التالي ذهبت إلى ساحة ترافلغار وخيمت عند الجدار الشمالي، المعروف بأنه ملتقى المشردين في لندن. في هذا الوقت من السنة، يبلغ عددهم نحو 200، وبعضهم يعتبر الساحة منزله.. يحصلون على طعامهم من خلال دورات استعطاء، خصوصا في «كوفنت غاردن» عند الرابعة صباحا؛ إذ تكثر الفواكه المتهرئة، أو في الصباح من بقايا المطاعم وأكياس القمامة. كما يعطون بعض القروش من المارة مما يكفي لشراء الشاي.

يقدم الشاي في الساحة طوال الوقت ويضاف إليه الحليب من تنكة تثقب بسكين ثمنها بنسان ونصف البنس، ومع الوقت يتسخ ثقباها. وأما الماء الساخن، فنأخذه في الليل من الحرس أو نشعل له الحطب، غير أن الشرطة تمنعنا من ذلك. بعض الناس الذين التقيتهم موجودون في الساحة منذ ستة أسابيع دون انقطاع. جميعهم قذارى. بعض هؤلاء، وأكثرهم آيرلنديون، يعودون إلى قراهم للزيارة، متسللين في مراكب الشحن، ويغض عنهم الملاحون النظر.

كنت قررت أن أمضي الليل في كنيسة سانت مارتن. لكنني فهمت من البعض أن ثمة امرأة هناك تطرح أسئلة متعبة، فقررت أن أمضي الليل في الساحة. لم يكن الأمر بالسوء الذي توقعته. لكن ما بين البرد والشرطة، استحال علينا النوم، حتى للمشردين القدامى. هناك مقاعد لنحو 50 شخصا، وعلى الباقين الجلوس على الأرض، وهو طبعا ممنوع قانونا. وكل بضع دقائق يعلو صوت محذرا: انتبهوا يا شباب. ثم يصل شرطي ويهز النائمين ويطلب من الجالسين الوقوف. وما إن يمضي، حتى نعود إلى ما كنا عليه. وكانت هذه اللعبة تستمر من الثامنة مساء إلى نحو الرابعة فجرا. بعد منتصف الليل كان البرد يشتد، فأعمد إلى المشي مسافات طويلة لكي أشعر بشيء من الدفء.. الشوارع مرعبة في هذا الوقت، مهجورة وصامتة، ومع هذا، مضاءة، كما في النهار، من أعمدة باهتة تعطي الانطباع بأن لندن جثة ميتة. نحو الرابعة فجرا، جلس ستة منا على مقعد خشبي واحد ولففنا أنفسنا بصحف عتيقة إلى أن فتح مقهى «ستيوارت»، بشارع مارتن، أبوابه. في المقهى، نستطيع تناول فنجان من الشاي من الخامسة إلى التاسعة. وأحيانا يتقاسم ثلاثة أو أربعة فنجانا واحدا، كما يسمح لك النادل بوضع رأسك على الطاولة حتى السابعة حين يأتي صاحب المقهى ويوقظك. يلتقي المرء جميع أنواع الناس هناك، وثمة خناقات كثيرة، وقد شاهدت زوجة حمّال، كريهة الملامح، تشتم امرأتين لأنهما قادرتان على شراء فطور أفضل من فطورها.