اتحاد دول الخليج العربي وتحمل المخاطر

TT

تنقسم النخبة في الخليج تجاه النظر إلى الأفكار المطروحة للدخول في اتحاد لدول الخليج، وتطوير الموجود وهو مجلس التعاون إلى اتحاد، إلى أكثرية مرحبة، وأقلية غير متحمسة، وكلا الفريقين سوف ينشط في المقبل من الأيام لطرح أفكارهم على الغير، وقد طرحت الفكرة برمتها في إطار تجمع محدود من الخبراء اجتمعوا تحت مظلة الأمانة العامة لمجلس التعاون في الرياض الأسبوع الماضي.

فكرة الاتحاد طرحها الملك عبد الله بن عبد العزيز على قادة دول مجلس التعاون في القمة الأخيرة التي عقدت في الرياض في ديسمبر (كانون الأول) 2011، ومن وقتها والحديث يدور، بين متحمس ومتريث.

الجزء المتريث أو غير المتحمس منقسم إلى ثلاثة تيارات على الأقل، بعضه يرى أن فترة مجلس التعاون ما زالت لم تنقض، وبقوانين وقرارات مجلس التعاون تمت مواجهة الأزمات التي مرت في الخليج وعلى رأسها حدثان كبيران هما احتلال العراق للكويت وأيضا الاضطرابات السياسية في البحرين، وقد واجهها مجلس التعاون بنجاح كلي أو نسبي، وهذا يعني أن قدرته على الفعل قائمة، وأن أي اتحاد الآن سوف يواجه صعوبات لا داعي لفتح ملفاتها. أما التيار الثاني فإنه يرى أن هناك (مكتسبات) شعبية في بعض دول الخليج لم تتحقق حتى الآن في البعض الآخر، وأن أي اتحاد قد يطيح أو يقلل من تلك المكتسبات، وهو تيار قد يركب قطار الاتحاد عندما يتأكد أن مكتسبات المجتمعات الخليجية المحلية لن تتأثر بالدخول في الاتحاد، وهذا قد يأتي بعد فتح باب النقاش للتصور شبه النهائي لشكل الاتحاد المطلوب. أما التيار الثالث فيرى أن في الاتحاد خطرا عليه، حيث إن قوته النسبية في الدولة الخليجية الصغيرة، هذه أو تلك سوف تذوب في بحر الأغلبية، وهو تيار قد تتخيله هواجس ليست محلية فقط، ولكن خارجية ربما.

الأكثرية ترى أن التحمس لوحدة الخليج طبيعي، حيث تتماثل الأنسجة الاجتماعية والثقافية إلى حد كبير، كما أن المصالح متشابكة، وأن مجلس التعاون بصيغته الحالية قد استنفد أغراضه، وقد كانت نجاحاته محصورة في المواقف السياسية الحادة، ولكنه أقل من طموحات الناس في القرن الواحد والعشرين.

مثل هذا النقاش قابل إعلان مجلس التعاون بتشكك البعض في البداية من الهدف من إقامته، وتبين لاحقا أن كل ما أثير من مخاوف حوله في ثمانينات القرن الماضي، هي مخاوف متخيلة، بل إن الكثير من المزايا الإيجابية قد تحققت في المسيرة، وقد يصدق ذلك على دعوة الاتحاد الجديدة.

من هنا ترى قطاعات واسعة من النخب في الخليج أن في نقل التعاون إلى الاتحاد مخرجا استراتيجيا لما يحيط بدول الخليج من مخاطر مستجدة، وهي مخاطر داخلية وخارجية على السواء، في ظل المتغيرات العميقة التي تضرب بقوة الإقليم العربي والعلاقات الدولية، وقد نظم البعض نفسه من خلال تجمعات للمجتمع المدني للدعوة إلى الاتحاد على الصعيد الشعبي، الأمر الذي لم يحدث عند إنشاء مجلس التعاون.

أما الأسباب المحبذة للاتحاد، فإنني أراها في متغيرات خمسة:

أولا: تغير قواعد اللعبة الدولية، فالقوى العالمية التي تعاقبت على حفظ الأمن في الخليج هي قوتان: بريطانيا ومن ثم أميركا، كلتاهما تراجعت عن الساحة الدولية، على الأقل من حيث القوة الخشنة، فآخر استخدام للقوة الخشنة لأميركا كان في العراق وأفغانستان، وتضررت القوة الأميركية ضررا كبيرا اقتصاديا ودبلوماسيا، من ذلك الاستخدام المباشر للقوة. عاش الخليج على أمن ما يعرف بـ«برتش راج» أي النفوذ البريطاني لأكثر من قرن ونصف القرن من الزمن، تراجع تدريجيا حتى السبعينات من القرن الماضي، حيث استقلت دول الخليج الصغيرة، ثم تحول الأمر بعد فراغ أمني حاول شاه إيران أن يملأه، وكان سريعا عاصفا وقصيرا في الزمن، عاد الخليج من جديد إلى ما سمي بـ«أميركن راج» أي النفوذ الأميركي، ولكن سرعان ما أخذت أميركا المقعد الخلفي في الصراعات النشطة، والمثال على ذلك معركة تحرير ليبيا من التسلط الجنوني للقذافي.

إذن قواعد اللعبة قد تغيرت وتتغير بسرعة شديدة، فلا مجال للاعتماد على تحالفات خارجية لا يستطيع أحد المراهنة عليها لفترة طويلة، من هنا وجب التفكير فيما يمكن أن يسمى تجميع السيادات في الخليج من أجل تحقيق المصالح وليس درء المخاطر فقط.

ثانيا: لعب النفط في دول الخليج العربي دورا مزدوجا، هو خليط من الدفع بالتفكيك إلى الدفع بالتجميع، في بداية تدفق النفط اختلفت دول الخليج فيما بينها على الحدود، بسبب وجود أو عدم وجود النفط، وظهرت شرور كثيرة نتيجة هذا التنازع، منها التدخلات الخارجية ومنها نوازع التفكيك المحلية التي جعلت كل إمارة تسعى للاستحواذ على هذا الجزء أو ذاك من الحدود، أما وقد استقرت معظم الحدود بفضل حكمة رجال تاريخيين ولم يبق من الأمر إلا النزر اليسير، فإن النفط عاد ليلعب دور التجميع، كون القوى الخارجية والإقليمية شرهة للاستحواذ على قسم كبير من ثروات النفط، ودخلت دول الخليج في السبعينات متعاونة من أجل معركة (التأميم) النفطي ونجحت فيها وهي تدخل الآن معركة وجب أن تكون جماعية للحفاظ على الثروة ومن حيث الاستخدام الأفضل لها ومن حيث حمايتها من الأطماع الخارجية.

من نافلة القول إنه في ضوء تراجع وتغيير قواعد اللعبة في العالم، فإن القوى الإقليمية لن تجد أمامها رادعا يخفض من توقعات طموحاتها في التوسع غير أن تجابه بستار من الوحدة. بجانب تحقيق ذلك الهدف الاستراتيجي فإن تجميع الموارد يعني فيما يعنيه استخداما أفضل لها من حيث توفير الطاقة والمياه وتجويد التعليم وفتح سوق واسعة للمبادرين الخليجيين الذين تتسع دائرتهم للاستثمار الأجدى.

ثالثا: التغير في المحيط العربي الذي ركن كثيرا على توافق إقليمي تقوده دول عربية كبيرة، فلم تعد مصر بقادرة على لعب دور من أي نوع، ومن المحتمل تعطل الدور المصري في الإطار العربي لفترة قد تطول، كما أن العراق في شقاق قد يقود إلى تفتيت العراق، واليمن يدخل أيضا في نفق قد يخرج منه بشرور تصيب الجوار، وسوريا تواجه منعطفا سوف تخرج منه - إن خرجت - بجروح غائرة تعطل أي دور لها كما عرف في العقود الأربعة السابقة. إن ربيع العرب الذي تتدحرج نتائجه كسيل منهمر في عدد من الأودية الجافة يجعل منطقة الخليج مكشوفة الظهر، وبلا ظهير عربي، كل ذلك معطوف على الدور الذي اضطرت إليه كلاعب أساسي في صيرورة تدحرج كرة الربيع العربي من مصر إلى ليبيا إلى اليمن إلى سوريا أخيرا، قابلة للدور الذي قامت به، كما يقول أعداؤها، أو مضطرة لاتقاء المخاطر، هذا الدور رتب أي القوة الناعمة الخليجية، سوف يترتب عليه استحقاقات كثيرة، قد تنوء بها منفردة كل دولة على حدة، بل وقد يتعرض استقرارها إلى الاضطراب إن بقيت في نفس المكان التي هي فيه.

رابعا: قد يكون من تناقض الأقدار أن الوحدة العربية التي طالبت بها النخب العربية منذ منتصف القرن الماضي وكانت حلما لأجيال متعاقبة، أن تحققها في زمن التفكيك دول الخليج، وهو إنجاز يضاف إلى الإنجاز الذي حققه رجال تاريخيون في الوحدة، منهم الملك المرحوم عبد العزيز ورجاله الذين حققوا وحدة الجزيرة، والمرحوم الشيخ زايد بن سلطان ورجاله الذين حققوا وحدة دولة الإمارات، وأيضا توافق الرجال الستة الذين أنشأوا مجلس التعاون. كل ذلك يعني أن طلاب الوحدة هم من يحققها على الأرض وليس من يتحدث عنها في الإذاعات.

خامسا: ليس هناك نموذج معين لدول الخليج العربية المتحدة، فهناك عدد من التجارب الوحدوية في العالم التي لا تكاد تشابه إحداها الأخرى، وللمقارنة فإن (النفودس) في كلمة كونفدرالية تعني باللاتينية (تحالف الأغيار) فمتى ما توفر تحالف المنسجمين توفرت الوحدة بشكل أفضل وعبر الجميع من الاختلاف إلى التجانس، لا شك لدى كثير من العقلاء يرى أن الطريق إلى دول الخليج العربي المتحدة، ليس سهلا ولا مفروشا بالورود، فهناك مطالب لتعديلات في الهياكل السياسية والاقتصادية واجب تنفيذها، وهناك حساسيات مطلوب تجاوزها، وهناك أدوار سياسية مطلوب القيام بها ولا تترك لرجال إدارة والبيروقراطيين، ولكن يتصدى لها رجال سياسة لديهم القدرة على رؤية ثاقبة تنقذ أوطانهم من الخلل، وقد يتجرعون المر في سبيل تفادي الأمر!

آخر الكلام:

يلعب الرجال في التاريخ دورين، الأول المجهض لتطلعات شعبه والمتعسف والأناني الذي يرى العالم من منظور شخصيته المليئة بجنون العظمة، والثاني رجال بناة يحترمهم التاريخ لأنهم قدموا إصلاحات لشعوبهم، حتى لو كانوا في إطار الحكام التقليديين، بطرس الأكبر في روسيا والذي اعترفت له الثورة البلشفية المضادة لكل أفكار الحكم الملكي، بالريادة فقط لأنه لم يكن مشحونا بجنون العظمة أو الأنانية!