«الفرعون» و«الفرعونية»

TT

صك علماء السياسة والدارسون للشرق الأوسط مفهوم «الدولة الفرعونية» لكي يضيفوا نمطا آخر من أنماط الدول الاستبدادية التي تقف جنبا إلى جنب مع مفاهيم أخرى مثل «الاستبداد الشرقي» و«نمط الإنتاج الآسيوي» و«الدولة البيروقراطية».. إلى آخر ما ذاع من مفاهيم. ومع ذلك، فقد كان للدولة الفرعونية تميزها، لأنها دولة «هيدروليكية» تقوم فيها مركزية توزيع المياه، التي لولاها لقام المجتمع على النزاع والصدام. وفيها أن «الفرعون» هو حالة وسطية بين البشر والآلهة؛ ولأنه كذلك، كانت فكرة «الخلود» ممكنة من خلال تحنيط الجسد والاحتفاظ به حتى وقت آخر سوف يأتي حتما. ولذلك، فإن «الدولة الفرعونية» تقوم على هرمية شديدة التعقيد؛ يوجد فيها الفرعون على القمة، ويحيط به «الكهنة» - أو المثقفون في عصرنا الحالي - ومن بعدهم الكتبة أو البيروقراطية التي تنظم شؤون الدولة والعباد.

ومع كل سماتها المميزة، فإن الدولة الفرعونية تظل ضمن ذلك الفصيل من الدول الاستبدادية حتى ولو كان فرعونها محبوبا قليلا؛ أو يشعر مواطنيه بأن لديه دورا يؤديه في حماية الدولة والمواطنين. وربما لم تكن صدفة أن يصر الرئيس السادات على أنه «آخر الفراعنة» و«رب العائلة» المصرية. ورغم أنه ثبت وجود فرعون آخر على الطريق تعرض في نهاية حكمه للمحاكمة وليس الاغتيال، فإنه ظل حتى آخر لحظة متعجبا من عدم إدراك شعبه ما أداه له من خدمات حتى نقله من حالة إلى أخرى أكثر تقدما ورفعة.

«الدولة الفرعونية» بالتأكيد تأثرت بالتاريخ المصري الطويل الذي لم يعرف إلا الاستبداد وحكم الفرد الواحد. ورغم أن الثورة المصرية في يناير 2011 جاءت كي تقضي على «آخر الفراعنة»، فإن الاجتهاد في ما جد بعدها وعلى مدى عام كامل طرح إمكانية الفصل بين «الفرعون» و«الفرعونية». والمعنى هنا أنه بينما يشير «الفرعون» إلى طاغية بعينه له اسم ورسم؛ فإن «الفرعونية» هي ظاهرة مكتملة تقوم على طقوس، وعلى ترتيبات مجحفة في علاقة الحاكم والمحكوم. ومثل ذلك يمكن تصوره بوصفه نتيجة من نتائج «الربيع العربي» التي لا يبدو أن «الديمقراطية» سوف تصير حكمها النهائي. فالحاصل أن الجماهير الثورية في مصر وتونس وليبيا رغم أنها ترفع الحرية شعارا، فإنها ليست دائما على استعداد لترجمة هذه الحرية إلى واقع إجرائي وقانوني تعيش في ظله الجماهير وتمارسه في حياتها اليومية.

وربما ليست صدفة أن ارتفاع وتيرة العنف داخل المجتمعات العربية ارتبط باتساع نطاق الحديث عن «الحريات العامة» و«الشخصية» حيث زاد الضغط على المرأة والأقليات في العموم. ورغم ما أظهره «ميدان التحرير» من روح التسامح، فإنه سرعان ما شبت الحرائق في الكنائس وسقط قتلى لأن دينهم ليس دين الأغلبية؛ وأعقب ذلك حالات للقتل الجماعي دون سبب مفهوم كما جرى في بورسعيد في أعقاب مباراة لكرة القدم.

«الفرعونية»، حتى من دون «فرعون»، يمكن فهمها من زوايا عدة؛ فهي تعبير عن «طغيان الأغلبية»، وهو تعبير ليس شائعا في البلدان العربية رغم كونه جزءا مهمّا من الأدب الديمقراطي حيث تعد حقوق الأقلية - السياسية أو غير السياسية - جزءا لا يتجزأ من النبراس الديمقراطي.. فلا تستطيع أغلبية أيا كان عددها أن تقتل نفسا بغير حق، أو تحرم إنسانا من حق التعبير، أو تقف دون تمتع فرد بحرياته الدينية. ومع ذلك، فإن الأغلبية العددية تظل لها قدرة ضاغطة، وهي تمارسها بمجرد الوجود، وما لم يعمل النظام السياسي على التخفيف من غلوائها فإنها تتحول إلى دكتاتورية أو شمولية صريحة حتى ولو كانت تجرى انتخابات دورية لا تنتج بالضرورة فرعونا بعينه، ولكنها تنتج حالة فرعونية بعينها هي الاستبداد. هنا، فإن ممارسة الأغلبية سواء في البرلمان أو في الشارع أو الحي أو عند إصدار القوانين لقدراتها العددية، ربما ترتب حالات من الخوف الذي يشكل وضعا بعينه، ويمنع أوضاعا أخرى من التشكيل حتى ولو كانت أكثر جدارة. وفي دولة عريقة الديمقراطية مثل الولايات المتحدة لم يكن ممكنا لكاثوليكي أن يتولى رئاسة الدولة إلا مرة واحدة - جون كيندي – ولا لرجل أسود البشرة، إلا باراك أوباما، وهناك شكوك قوية حول قدرة ميت رومني على الوصول إلى البيت الأبيض لأنه من طائفة المورمون.

ولكن بعد طغيان الأغلبية، غالبا ما يولد بُعدٌ آخر، وهو القدرة على العنف، خاصة عندما يجتمع العدد مع الثورة أو الحرمان الشديد، وبينما الأولى تعطي إحساسا بالقوة، فإن الثانية تولد ما يكفي من الكراهية، وكلاهما يولد أشكالا من حب السيطرة والرغبة في الهيمنة تقود إلى ممارسة العنف ضد الأضعف والأقل حيلة. ولكن ذلك لا يحتاج دائما إلى أغلبية عددية، فهناك حالات تستطيع فيها أقلية أن تقوم بالمهمة نفسها إذا ما توافر لها سلاح أو معرفة أو قدر ما من التفوق. ومن المؤكد أن حالات للسنة في العراق، والعلويين في سوريا، والموارنة في لبنان، والتوتسي في رواندا، خلقت حالات فرعونية ليس فقط من دون فرعون، ولكن أيضا من دون الأغلبية العددية.

والآن، فقد مضى عام على الثورات العربية، وهي على اختلاف أشكالها وظروفها تبدو في حالة من المجاهدة مع الفكرة الديمقراطية في العموم؛ وفي بعض الأحيان، فإن هناك صراعا صريحا معها. ولم يكن ذلك فقط نتيجة وجود لحركات الإخوان المسلمين التي يبدو أنها باتت على استعداد للقبول بالشكل الإجرائي للديمقراطية، والتأكد من أنها لن تولد فرعونا، إلا أنها لم تجد معضلة في ممارسة الأغلبية التي تتمتع بها داخل البرلمان من ناحية، والتجاهل في التعامل مع استخدام العنف ضد الأقليات من ناحية أخرى. ولكن مع الخطوة التي قطعتها جماعة «الإخوان» إلى الأمام، فإن جحافل سلفية وجهادية ظهرت على الساحة وباتت تعبر عن رأيها دون مواربة داعية إلى دولة آيديولوجية خالصة، ولها خليفة أيضا بعد فترة زمنية لم يتم تحديدها.. في هذه الحالة، فإن السلفيين يقدمون «الباقة» كاملة فيها «الفرعون» و«الفرعونية» معا.

كيف يمكن الخروج من هذا المأزق، خاصة أن الجماهير الثورية رغم ندائها بالحرية والعدالة والكرامة فإنها لا تضع «الديمقراطية» جزءا من ميثاقها، بل إن البشائر الأولية تدل على استعدادها للتمرد على ذلك القدر المحدود من الديمقراطية الشكلية وكأنها تستعجل لقاء «الفرعون» بـ«الفرعونية» رغم أن الفصل بينهما كان واحدا من أهم إنجازات الثورات؟ وللحق، فإنه لا يوجد حل مباشر لهذه القضية، وفي التاريخ الغربي، فإن ذلك جرى من خلال سلسلة من الثورات المتتابعة، وبعضها جاء من خلال ارتفاع مستويات التعليم والتكنولوجيا والتصنيع، وبعضها الآخر جاء من خلال صراع ثوري تمرد أحيانا على الفوضى. ولم تكن «الديغولية» ومولد «الجمهورية الخامسة» إلا ترجمة لمثل ذلك. وفي مصر الآن يجري الحديث عن «الجمهورية الثانية» ويبدو أن أمامنا طريقا طويلا للغاية.