هل تراجع حقا الدور التركي في سوريا؟

TT

الأنباء والأجواء الدبلوماسية التي ترصد التحولات في الموقف التركي حيال الأزمة السورية تكاد توحي بأن هناك ما جرى بعيدا عن الأعين مع أكثر من طرف وعاصمة دفع بحكومة «العدالة والتنمية» لتخفيف نبرتها تجاه القيادة السورية ولرمي الكرة في ملعب جامعة الدول العربية ومجلس الأمن الدولي، على عكس كل تعهداتها والتزاماتها أن تكون المحرك الأساسي في خط المواجهة مع النظام السوري وأنها لن تتخلى عن التزاماتها السياسية والأخلاقية حيال من يناضل لتحقيق مطالب التغيير والحصول على الحرية والعدالة التي ارتدى كفنها منذ أشهر.

المشهد من الدوحة أو واشنطن أو باريس هو غير المشهد من أنقرة. أنقرة تبدو من بعيد وكأنها تقف على مسافة واحدة مثل العديد من العواصم الحذرة المترددة والمربكة أحيانا. الكثير مما تقوله وتردده لا يعجب ولا يطمئن قلقين متحمسين متعاطفين مع معاناة الشعب السوري. هي تبدو في موقع من لا يريد أن يتحول إلى قذيفة في فوهة المدفع الموجه نحو دمشق أو كبش الفداء الذي يضحي فيسقط النظام لكنها تفقد هي الكثير من طاقاتها وقدراتها التي تحتاجها في هذه الأوقات، لصالح آخرين يحولون ذلك إلى فرص إقليمية واستراتيجية يلعبونها ضدها. لكن ما يتم تجاهله في الموقف التركي هو أن أنقرة قالت منذ البداية إن الأسد لم يعد قادرا على البقاء في موقع القيادة وإن سوريا بسبب سياسات من هذا النوع يطلقها النظام تتقدم باتجاه الحرب الأهلية، وأنها رجحت منذ البداية كفة الشعب السوري المصر على المضي في ثورته حتى النهاية، وأنها لو كانت ستتراجع عن موقفها هذا لما كانت دخلت في مواجهة مفتوحة وخطيرة من هذا النوع مع الرئيس الأسد شريك الأمس.

المجحف بحق حكومة أردوغان أيضا هو التغاضي عما تقوله بأنها لم ولن ترمي الكرة في ساحة الآخرين، وخصوصا أن المعارضة السورية تتحرك من أراضيها هي كقاعدة انطلاق باتجاه مختلف العواصم. لكن الأهم من كل ذلك هو تردادها أنها لن تسمح برسم السيناريوهات السوداوية في مسائل من هذا النوع وتفتح الطريق أمام المصطادين في الماء العكر للحديث عن مساومات بعيدة عن الأضواء أجرتها مع طهران وموسكو مقابل تعديل مواقفها في الموضوع السوري.

القيادات التركية تعرف أيضا ومن دون لف ودوران أن لا خيار آخر أمامها هذه المرة سوى الالتزام بتعهداتها حيال المعارضة السورية والكثير من الدول العربية والغربية حتى لا تتهم بمن يتبع سياسة «ضربة على الحافر وأخرى على المسمار»، وأنه بقدر ما كانت موسكو وبكين واضحتين وشفافتين في تحديد مواقفهما وسياساتهما في التعامل مع الموضوع السوري، لا بد لأنقرة أن تكون على نفس المستوى من الوضوح والصراحة في تحديد تحرك سريع يتجاوز عبارات التضامن وتكرار انتقاد النظام السوري أمام الكتل النيابية. فطوق النجاة السوري من المحتمل أنه لم يعد بيد أنقرة لكن طوق النجاة التركي يتطلب الرؤية الواضحة والرد السريع على محاولات تحذير وتخويف تركيا من السقوط في المستنقع السوري.

وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو الذي أعلن أن البعض يحاول اتخاذ القرارات والبعض الآخر يحاول تعطيلها بينما نحن من يدفع الثمن في النهاية، أكد رغم كل ذلك أن المحاصرين في المدن لن يكونوا وحدهم في مواجهة القمع الذي يتعرضون له هناك، وأن تركيا التي أخذت مكانها في اجتماع الدوحة ستقطع الطريق على كل السيناريوهات والتخيلات التي تبنى على أساس سقوط أنقرة في مصيدة النظام السوري، وأنها أسقطت معها المعارضة التي تتحرك عبر أراضيها.

الحديث عن تخفيف رجب طيب أردوغان من لهجته خلال تناول الموضوع السوري وسلوك نظام الرئيس الأسد، طرح يتعارض تماما مع اتهامات رجب طيب أردوغان الأخيرة للرئيس السوري باتباع سلوك والده في ارتكاب المجازر ضد شعبه، ومع ما قاله قبل أيام أن النظام يصوب مدافعه ضد شعبه، وأن من يقتل شعبه على هذا النحو لا يمكن له أن يستمر في القيادة. وكل هذا سيزيد من غضب الأسد وسيدفعه للتصعيد أكثر فأكثر مع أنقرة ورد التحية بأحسن منها، وهي التي قبلت مغامرة التخلي عن حليف وشريك بهذه الأهمية وتركه وحيدا بعد عقد كامل من التقارب والانفتاح.

لا مشكلة لتركيا في تحديد مواقفها وسياساتها حيال الأزمة السورية، خصوصا بعد هذه الساعة، فالبعض يريد إنقاذ النظام والبعض يريد إنقاذ الشعب، لكن تركيا قالتها أكثر من مرة.. هي تريد إسقاط النظام وإنقاذ الشعب، ولعب الدور الرئيسي في ذلك لا مهرب منه مهما كثرت السيناريوهات وطرحت البدائل والخيارات الإقليمية والدولية.

تركيا اليوم رغم كل ما نردده حول الدقة والحذر في قراراتها حيال الأزمة السورية لن تتجاهل استمرار إراقة الدماء في المدن السورية ولن تضع مسألة من هذا النوع في كفة المساومة على مصالحها وصعودها الإقليمي ولن تختار الوقوف بعيدا عن زخات المطر عبر رمي الكرة في ملعب الآخرين.

داود أوغلو الذي قال إن تركيا ضد الحرب الأهلية وتفتيت سوريا وتقسيمها، أعطى في الأيام الأخيرة إشارات حول أن بلاده لن تعمل على تجيير الملف السوري لأحد، وإننا لن نكون مخطئين إذا ما راهنا على أن تكون مفاجأة أنقرة المرتقبة هي التحرك لسحب السفير التركي رسميا من دمشق وإعادة إحياء مسألة المناطق العازلة على حدودها المشتركة مع سوريا في إطار التحرك الدولي الجديد بعيدا عن مجلس الأمن ليكون مركز الثقل في الرد على «الفيتو» الروسي - الصيني الذي منح دمشق المزيد من الوقت والفرص للمقاومة. استعداد تركيا لاستضافة الاجتماع الثاني لمجموعة «أصدقاء الشعب السوري» لن يكون مجرد خطوة استكمالية للقاء تونس.