وجدان مصر ومجدها

TT

وضع ثروت عكاشة قبل سنوات مذكراته في مجلد ضخم. ضابط أوكلت إليه شؤون الثقافة في بلد مثل مصر، فبدل أن يصدر أمرا بإلغائها أو إرسالها إلى السجن، كرس حياته، في الوزارة وخارجها، للعناية بجميع الأوجه الثقافية والحضارية، من إنقاذ أبو سمبل من الغرق إلى رفع صوت الأوبرا.

كان ثروت عكاشة الوجه الثقافي لمصر، وليس للثورة. لم يعترف بـ «المناخ الثوري» الذي يقوم على تدمير التراث الجميل، والنهي عن الفن الراهن، واعتبار كل ما هو فكر وتقدم وحداثة، ترفا لا لزوم له، كما فعلت «الثورة الصينية» في عاصفة من الجنون والقتل. أو كما فعل السوفيات طوال عقود. لم يعتبر عضو حركة «الضباط الأحرار» أن الفنون مرض بورجوازي، بل إنها ظاهرة حضارية، خصوصا في بلاد الفراعنة، التي هي متحف لا مثيل له على النيل. ولم يكتف ثروت عكاشة برعاية الآداب بل كان شريكا فيها، ومنها ترجماته لمؤلفات جبران خليل جبران، وإن كان قد اعتراها بعض القصور، فالجهد كان مثيرا للإعجاب والتقدير.

يغيب ثروت عكاشة والسؤال الكبير والمقلق في مصر: كيف ستنظر ثورة 25 يناير إلى الثقافة والفنون؟ لقد بدأ النواب الجدد بتبرير استباحة نجيب محفوظ وإحالة عادل إمام إلى القضاء. كلاهما يحاكم أو يقاضى أو يحكم على تاريخه برمته. وهو تاريخ كان الواجهة في حياة مصر على مدى عقود، الأول في الرواية والثاني في المسرح والسينما.

من سوف يقرر بعد اليوم مفاهيم الآداب والفنون في مصر، ومن سوف يكون ثروت عكاشة الثورة، أم أنه لن يكون للثورة ثروت عكاشة؟ لقد أطاحت الثورة أول ما أطاحت الدكتور زاهي حواس، الذي فاق دوره في كشف الكنوز الأثرية دور عكاشة نفسه. وأرغم الدكتور جابر عصفور على الاستقالة من آخر حكومات مبارك بتهمة العيب، مع أن الثقافة بحد ذاتها سوف تعثر بصعوبة على رديف له.

سوف يحدث في مصر ما كان كثيرون يخشون من حدوثه: أن يقدم كثيرون على تعيين أنفسهم قضاة في مسألة لا علاقة لهم بها. وقد تخفت أضواء كثيرة في مصر، وتغيب ابتسامات كثيرة عن المسرح ليعود المصريون إلى نكاتهم السرية ومسرحهم الخفي في البيوت والمقاهي. وبهذا المعنى لم يكن ثروت عكاشة وزيرا بل حالة من الشجاعة والشغف، طالما واجه كبار أهل الحكم، من أجل ما اعتبره وجدان مصر ومجدها.