سوريا.. ووضع الندى في موضع السيف

TT

«ما كان أحد ليعبر المحيط لو قفز من السفينة بمجرد تعرضها لعاصفة»

(تشارلز كيتيرينغ)

نعيش تسابقا غريبا على إيجاد المبررات للإحجام عن أي تدخل جدي ينهي معاناة الشعب السوري.

بعض العرب، بمن فيهم مصر، يقفون ضد تسليح المعارضة السورية بحجة أنه يفضي إلى حرب أهلية.

وواشنطن، على لسان وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، «قلقة» – حفظها الله – من تسرب السلاح إلى «القاعدة» والجماعات الأصولية، وهذا مع أن الدكتور برهان غليون، الرئيس المؤقت للمجلس الوطني السوري، مع تسليح «الجيش السوري الحر» وليس كل من هب ودب ممن يصفون أنفسهم بالمعارضين.

ودول الاتحاد الأوروبي – ومثلها واشنطن وبعض العرب – تتحجج بأن المعارضة السورية منقسمة على نفسها، وبالتالي ليس لديها مشروع واحد أو تصور واحد لمستقبل سوريا. ثم تصر على صدور تفويض صريح بالتدخل من مجلس الأمن الدولي؛ حيث «الفيتو» الروسي - الصيني المزدوج بالمرصاد لأي ردع ولو كان محدودا لطغمة حاكمة استمرأت قتل مواطنيها واعتادت على تدمير مدن وطنها العامرة.

روسيا والصين تزعمان «الحياد» وتوزعان مسؤولية العنف بالتساوي على الجانبين، الحكومي والمعارض، على الجزار والضحية، فتخوضان فعليا بأجساد الشعب السوري ومصيره «معركة» ابتزاز ومساومة مع الولايات المتحدة؛ كون الأخيرة لا تكترث – حسب موسكو وبكين – لمصالحهما كقوى كبرى عائدة إلى المسرح بعد تراجع سطوة الأحادية الأميركية.

وتركيا، التي وعدت السوريين مرارا وتكرارا بأنها «لن تقف مكتوفة الأيدي» إزاء ما يرتكبه حكام دمشق من مجازر، ما زالت، على ما يبدو، تفضل فضة الكلام على ذهب السكوت؛ حيث لا تصور ولا إرادة ولا شجاعة في التصدي لـمشروع «الهيمنة الإيرانية» الزاحف على منطقة الشرق الأوسط متسلحا برايات المذهبية وقوة السلاح.

وطبعا، هناك داخل المعارضة السورية، بأطيافها الواسعة، فئتان تعطلان الحسم، الفئة الأولى ساذجة في نقائها وعنيدة في مثالياتها، والثانية مشبوهة في ارتباطاتها الخفية بالنظام. وهذه الفئة الثانية – بالذات – تلعب اليوم دور «حصان طروادة» خطير في كيان المعارضة الفضفاض، وهي تظهر على شكل جناحين: جناح «معتدل» يصر على المطالبة بـ«الحوار» مع طغمة قاتلة تبتز الشعب كله بالحرب الأهلية، وجناح «متطرف» يرفع السقف ويزايد على الجميع، للإيحاء بأن قوى المعارضة الرئيسية عاجزة أو واهنة أو مترددة.

وواقع الحال أنه في أي دولة من الطبيعي ألا تكون المعارضة كتلة واحدة. بل في نظام استخباراتي بوليسي، كالنظام الذي ورثه الرئيس بشار الأسد عن أبيه.. ومن ثم عزز تبعيته المطلقة لنظام أحادي آخر هو النظام الإيراني، يستحيل أن تكون المعارضة منسجمة الصفوف وموحدة الأهداف بمعزل عن هدف إسقاط النظام؛ فأجهزة الاستخبارات تفننت طويلا في إذلال المواطنين، وإفساد ناشئتهم وغسل أدمغتهم عبر تنسيبهم رغما عن أهلهم في صفوف طلائع البعث – كما قالت المناضلة ريما فليحان في لقاء تلفزيوني مؤخرا – ومن ثم تعويدهم على التجسس على أهلهم والإبلاغ عنهم.

في نظام كهذا لا وجود لقضاء مستقل، ولا حماية لمواطن يُضطهد لدوافع سياسية فيزج به في السجون من دون تهم ولا فرصة للدفاع عن النفس.. إلى ما شاء الله.

وفي نظام من هذا النوع يصبح التزلف والنفاق والمحسوبية و«التشبيح» أضمن وسائل التقرب من الطغمة المتسلطة، وبناء عليه يصبح الشك بالأخ والأخت، والعم والخال، والقريب قبل البعيد، بل وحتى بالنفس أحيانا، أمرا طبيعيا. ويغدو من الصعوبة بمكان تبلور شعور قوي بالثقة بالغير. وهكذا، لا بد من الصبر، والتجربة والخطأ، وجعل التحركات على الأرض «مصفاة» للنيات، ومختبرا عمليا لتمييز الغث من السمين، والمخلص من الانتهازي والخائن.

في المعارضة السورية ينبغي النظر إلى التنوع على أنه ظاهرة صحية وليست آفة؛ ذلك أن في التنوع واختلاف الآراء، إذا كانا منزهين عن الأنانية والانتهازية والمناكفة والخيانة، إثراء للمعارضة وتعزيزا للقدرة على ممارسة الديمقراطية. فهل يريد أولئك الذين يحاولون ستر تقصيرهم بذريعة «انقسام» المعارضة أن تقوم في سوريا معارضة «الحزب الواحد» و«القائد الأوحد»؟

هل يريدون نسخة مستنسخة من البعث العائلي المذهبي تختصر أطياف المعارضة وتلاوينها التعددية الجميلة في بلد كان، حتى أواخر الخمسينات من القرن الماضي، أحد أغنى الأقطار العربية ثقافة وأكثرها رقيا وأروعها تسامحا وأطيبها أرضا وألمعها شعبا؟

كثيرون يتكلمون اليوم، ويا ليتهم لا يتكلمون. أما إسرائيل، المخطِّط الأكبر لما يحدث من فتنة تتأجج على امتداد أرض سوريا، فصامتة ببلاغة تصم الآذان. وإيران، المنفذ الفعلي، قليلة الكلام لأنها لا تجد حاجة للكلام.. فأصداء الأفعال أعلى وأقوى من الكلام الفارغ.

ما الخطوة المطلوبة الآن؟

أعتقد أن الرهان على أي تبدل ذي قيمة في الموقفين الروسي والصيني رهان في غير محله؛ فموسكو وبكين لم تتصرفا كما تصرفتا لـ«أسباب سورية» بل لـ«أسباب أميركية واستراتيجية». صحيح عند كل من العاصمتين هموم «إسلامية»، لا سيما في القوقاز وتتارستان وتركستان الشرقية (سنكيانغ). وصحيح أن ثمة منظومة أمنية في سوريا استثمرت فيها موسكو الكثير، ومعها خدمات وتسهيلات عسكرية بحرية، وعقود تسليح وتدريب.. لكن حسابات موسكو وبكين في نهاية المطاف هي حسابات قوتين دوليتين تطمحان – وتجدان من حقها أن تطمحا – للعب دور إقليمي في الشرق الأوسط مهما كان الثمن البشري باهظا في سوريا.

وللأسف، كان لافتا أنه منذ استخدمت الدولتان «الفيتو» في مجلس الأمن، لم يؤجل أو يلغ توقيع أي اتفاق تجاري مع أي منهما، ولم تلغ أو تؤجل أي زيارة، أو يعلق أي اتصال بينهما وبين الدول العربية الفاعلة. في حين كان من الممكن، بكل سهولة، تجميد أي اتصال أو أي خطوة من أي نوع مع أي منهما، بانتظار حدوث مراجعة لموقف العداء السافر الذي اتخذته موسكو وبكين من الشعب السوري المظلوم. الوقت لم يفت بعد على تجميد كل أشكال الاتصال مع روسيا والصين.

خطوة أخرى ضرورية هي تفاهم أجنحة المجلس الوطني السوري على «تصور حد أدنى سياسي» لمستقبل سوريا يمكن عرضه أمام «مؤتمر أصدقاء سوريا» في تركيا، ومن ثم، محاسبة من يحاول الالتفاف عليه، وتسريع العمل على تنسيق الجهد مع «الجيش السوري الحر» الذي بات من الواجب تسليحه ودعمه لتأمين حمايته، تمهيدا لتمكينه من حماية المواطنين.

إن تسليح «الجيش السوري الحر» وإيجاد مناطق عازلة تكون آمنة له في شمال سوريا وجنوبها مسألتان حيويتان، أقله لتوجيه رسالة حاسمة لحكام دمشق مؤداها أن قمعهم سيواجَه بجدية.

لغة الحسم بالقوة هي اللغة الوحيدة التي تخيف أنظمة القمع. ولقد ثبت طيلة الأشهر الـ12 الماضية أن الانتقادات والاستنكارات والتهديدات الجوفاء سياسة عديمة الفاعلية، والاستمرار بها ذر للرماد في العيون لا أكثر ولا أقل.

في سوريا أمامنا حكم لا يتورع عن شيء، ولا يرعوي، ولا يفهم إلا عندما يخاف.. فمتى يخوَّف؟