الدستور والرئيس التوافقي يعيدان نظام الحزب الواحد في مصر

TT

بعد مرور أكثر من عام على تنازل حسني مبارك عن رئاسة الجمهورية، بدأت معالم النظام الجديد في مصر تتضح وتشير إلى الطريق الذي سوف تسير فيه البلاد في المستقبل. وعلى الرغم من أن شباب الثورة التي بدأت في 25 يناير (كانون الثاني) من العام الماضي كانوا يطالبون بالإطاحة بنظام الحزب الواحد الذي فرضه جمال عبد الناصر منذ 23 يوليو (تموز) 1952، فإن الصورة الآن تشير إلى تمركز السلطة السياسية في يد جماعة الإخوان المسلمين التي حلت مكان الحزب الوطني المنحل؛ ذلك أن جماعة الإخوان باتت تسيطر على الأغلبية في البرلمان، وهي تستعد الآن لتكوين دستور جديد للبلاد يدعم برنامجها السياسي، ويستبعد احتمال وصول أي حزب يساري أو ليبرالي إلى سدة الحكم في المستقبل. وحتى تضمن أن انتخاب رئيس جديد للجمهورية لا يكون عقبة في طريقها، عملت الجماعة، ليس فقط على تقليص سلطة الرئيس، بل على أن تتحكم في اختيار المرشح الذي تريده ليعرض وحده على الجماهير.

فتنفيذا للبرنامج الزمني الذي وضعه المجلس العسكري الحاكم في مصر، قام البرلمان الجديد بتكوين لجنة مهمتها اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية التي سوف تتولى وضع دستور جديد للبلاد، على أن ينتهي عملها في موعد أقصاه 6 أشهر من بدء عملها، ثم يجرى استفتاء عام على مشروع الدستور خلال 15 يوما بعد ذلك. وقد أصر حزب الإخوان على أن يتم اختيار 40 من أعضاء الجمعية التأسيسية من بين أعضاء البرلمان الذي تملك الأغلبية فيه، على أن يتم اختيار الستين الباقين، 30 من الشخصيات العامة و30 من ممثلي النقابات التي يسيطر عليها، ومؤسسات الدولة. وعلى الرغم من تأكيد الدكتور سعد الكتاتني - رئيس مجلس الشعب الإخواني - أن الجمعية التأسيسية ستضم ممثلين من جميع الأطياف وتعبر عن مصالح جميع الفئات، فإن تصرفات الإخوان حتى الآن تدل على رغبتهم في الاستئثار بوضع دستور يناسب تطلعاتهم السياسية. فعندما عرض الدكتور علي السلمي اتفاق جميع القوى السياسية على مبادئ دستورية تلتزم بها الجمعية التأسيسية، خرج الإخوان إلى ميدان التحرير رافضين الاتفاق على أي مبادئ تقيد الجمعية التي يختارها برلمانهم. وبدلا من دفاع شباب الثورة عن وثيقة المبادئ الدستورية، انضموا إلى طلب الإخوان في إسقاط حكومة الدكتور شرف التي سقط معها أي حديث عن مبادئ الدستور، وهو خطأ سوف يدفعون ثمنه غاليا في المستقبل.

فلم يحدث في تاريخ النظم الديمقراطية أن يتولى البرلمان اختيار الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، بل أن يشارك أعضاؤه كذلك في هذه اللجنة؛ فالبرلمان يعبر عن مرحلة سياسية محددة، ومن الطبيعي أن يتغير اتجاهه في كل مرة يعاد فيها انتخابه. أما الدستور فيتضمن مبادئ ثابتة تحفظ مصالح الأمة بجميع طوائفها واتجاهاتها، وليس لمصلحة حزب الأغلبية. وهذا هو ما حدث في مصر عند وضع دستور 1923. فبعد انتهاء الحماية البريطانية على مصر في 28 فبراير (شباط) 1922، أعلن السلطان فؤاد في 15 مارس (آذار) استقلال مصر وغيَّر لقبه ليصبح ملك مصر بدلا من سلطانها. وفي الشهر التالي قامت حكومة عبد الخالق ثروت باشا بتكوين لجنة لوضع الدستور، تكونت من المفكرين ورجال القانون ورجال الدين والأعيان ورجال الأعمال، ثم أصدر الملك فؤاد الدستور بأمر ملكي في 19 أبريل (نيسان) 1923، طبقا للمشروع الذي وضعته اللجنة.

على الجانب الآخر، فإنه على الرغم من حصول الإخوان على الأغلبية في الانتخابات البرلمانية، فإنهم يتخوفون من إجراء انتخابات حرة لرئاسة الجمهورية؛ فهم يعلمون جيدا أن الغالبية التي أعطت صوتها لهم في البرلمان لا تنتمي إلى فكرهم ولا تعرف شيئا عن برنامجهم السياسي، بل كانوا يصوتون ضد النظام السابق. كما لعبت الهدايا التي وزعها الإخوان على ملايين الفقراء، من لحم وسكر وزيت وبطاطين، دورا مهما في حصولهم على أصوات فاقت كل توقعاتهم. أما الانتخابات الرئاسية فهي شأن آخر، ولو رشح الدكتور محمد بديع – مرشد الإخوان - نفسه للرئاسة، فلن ينال أكثر من 10% من الأصوات؛ ذلك أن المصريين لن يختاروا رئيسا لهم إلا بناء على برنامجه السياسي وشخصيته الاجتماعية.

لهذا فقد قرر الإخوان عدم ترشيح واحد منهم لمنصب الرئاسة، التي تم تحديد موعدها في يومي 23 و24 مايو (أيار) المقبل، حتى لا يصبح سقوطه بمثابة هزيمة للجماعة. ورغبة منهم في التحكم في اختيار الرئيس القادم، اشترطوا التوافق مقدما مع باقي التيارات السياسية على مرشح واحد يقدمونه إلى الناخبين. وحتى يضمنوا ولاءه لهم، اشترط الإخوان أن يكون المرشح التوافقي ذا خلفية إسلامية، فلا يكفي لديهم أن يكون الرئيس مسلما، بل لا بد أن يكون مؤمنا بالإسلام السياسي الذي يدعون إليه. وهكذا تعيدنا فكرة المرشح التوافقي للرئاسة إلى الوضع الذي كان سائدا منذ عام 1952؛ حيث كان مجلس الشعب يختار مرشحا واحدا يجري عليه الاستفتاء بنعم أو لا، وهو النظام الذي ألغاه مبارك عام 2005 عندما قرر مشاركة 10 مرشحين في أول انتخابات تعددية.