«الربيع العربي».. قل «نعم» بصوت عال!

TT

أصبح متلازما أن تقوم الثورات بتصفية الإنتلجنسيا، أي بالتخلص من القدرات البشرية ذات الكفاءة العالية في الوطن، في سبيل إحلال أنصاف القادرين من الموالين لتسيير ما يعتقده أهل النفوذ المطلوب في فترة الثورة حتى لو كانت تلك الإنتلجنسيا هي صاحب الثورة الحقيقي!

الثورات العربية ليست استثناء، فها هو ثروت عكاشة يغادرنا إلى خالقه، ولكن ليس قبل أن يقول لنا بعض الحقيقة على الأقل في مسيرة طويلة بدأت ولم تنته بعد على الأرض العربية «الثائرة»، هي وأد الآخر المخالف، ففي مذكراته المنشورة وصف لنا المشهد التالي قائلا: استدعاني جمال عبد الناصر على عجل، فحضرت وكان يستمع إلى شريط مسجل تصدر منه أبشع الألفاظ ضد شخصه، استمعت حتى النهاية، بعدها التفت إليّ وقال: تعرف من هو صاحب هذا الكلام، إنه «فلان الوزير»، لقد أقلته من منصبه، وأنا أريدك أن تقيل أيضا يحيى حقي (مدير مصلحة الفنون آنذاك وهي تابعة للوزير عكاشة)، فلما سألته، - يتابع عكاشة - لماذا.. أنا لم أسمع صوته في الشريط السابق؟ قال عبد الناصر لقد كان حاضرا الجلسة ولم يرد على الوزير!

هذه القصة رواها الوزير ثروت عكاشة في مذكراته، وهي رواية تعلق في ذهن أي متابع وتسبب له الحسرة الكبرى، لقد كان يحيى حقي صاحب رواية «قنديل أم هاشم» الشهيرة رجلا ذا قامة كبرى في الثقافة العربية والمصرية، وكان يمكن أن ينتهي في لحظات - لولا فطنة عكاشة - إلى أسوأ ما يمكن أن يواجهه في حياته، ولكن أمثاله يذهبون كل يوم لمجرد الشك أو الرغبة في الإزاحة. لقد أزاح عبد الناصر أفضل الأساتذة وأكثر القضاة تمرسا لأسباب سياسية، وكانت الثورة المصرية عام 1952 هي التي أشهرت الشعار القائل: أهل الثقة قبل أهل الخبرة، أو الولاء قبل الكفاءة.

في مسيرة الثورات العربية كافة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية جاءت إما بعسكر وإما بأحزاب شبه عسكرية طبقت ذلك الشعار، وبهذا تم تصفية صفوف طويلة من أهل الخبرة العرب في تلك البلدان، بعضهم ذهب إلى داره منكفئا، وبعضهم ذهب إلى المنافي، وآخرون لم يسعفهم الحظ فذهبوا بخبرتهم إلى المقابر. من هنا افتقدت تلك البلدان الأساس البشري للتطوير واعتمدت بدلا من رجال الخبرة والعلم رجالا آخرين كل مؤهلاتهم قول «نعم» بصوت عال للرئيس، كان هذا أحد أهم عناصر التخلف التي أضرت بالتنمية في معظم الدول العربية.

ليس المهم التاريخ، الأهم هو المستقبل وما هو آت، أعتقد أن نذير التخلص من الكفاءات العربية قد بدأ من جديد في أرض «الربيع العربي»، فأصبح كل من عمل مع النظام السابق مطاردا مهما كانت كفاءته الوطنية، والأنكى من كل ذلك أن البعض الذي عمل مع النظام السابق تزلفا يريد اليوم أن يتبرأ من المسيرة باتهام الآخرين الأكثر كفاءة وقدرة على العمل من أجل الوطن.

أنا أفهم أن تكون - في حالة الثورة - قطيعة مع الماضي ومع السياسات، ولكن من الصعب أن أفهم أن تحدث هذه القطيعة مع البشر، وخاصة أصحاب الخبرة ممن لم تجرمهم محكمة عادلة، فالوطن للجميع وليس مطلوبا من الناس أن يبقوا في بيوتهم حتى تحدث الثورة.

في الوقت الحالي نجد أن هناك محاولات لقتل الشخصية لوطنيين كبار في بلاد «الربيع العربي» ولدي بعض الأمثلة، عمرو موسى رجل ذو كفاءة عالية في الإدارة والسياسة في مصر بدأت بعض المنابر تبحث عن أصله وفصله وعلاقاته السابقة من أجل تجريحه، بل ويوصف توصيفا يراد به تشويه سمعته، فقد قيل إن له أخا غير شقيق فرنسيا! كما قيل إنه نجح في الجامعة بتقدير مقبول، وكأن الشهادة الجامعية هي التي تقرر ما إذا كان الرجل ناجحا في الحياة العامة أم لا! بل وذهبت بعض وسائل الإعلام إلى قريته يسألون الناس عن تفاصيل حياته وما إذا كان قد قدم خدمات للقرية أم لا وهو في مناصبه العليا، عطفا على الغمز بأن الذي لا يهتم بقريته، كيف يهتم بوطنه؟!

ولم يكن عمرو موسى هو الوحيد الذي مرغت كرامته إعلاميا وسياسيا، فها هو محمد البرادعي يهان شخصه في أكبر تجمع ديمقراطي في مصر يسمى «برلمان الثورة»، ويوصف علانية بأنه عميل «سارق للثورة»، وهو بجانب عمله المرموق السابق دوليا وبجانب أنه الرجل الذي كان أول من حمل شعلة الثورة ضد النظام السابق، من الكبار، وتلقى في سبيل ذلك سيلا من الشتائم من كهنة الحزب الوطني السابق لكونه من جنسية سويدية و«فاشلا» و«متعاليا» و«براني»، أي خارجي أيضا، وهو الآن يتلقى من جديد ممن عمل مع النظام السابق وأصبح في برلمان «الثورة الجديدة»، سيلا من الشتائم والادعاءات إلى درجة وصفه بأنه عميل! ومع ذلك يقبل برلمان الثورة مثل تلك الادعاءات من دون أن يتوقف ليسأل المدعي على أي ثبوتات بنى اتهاماته.

على مقلب آخر، نرى أن بعض وسائل الإعلام قد عاملت المتهمين بتلقي أموال من الخارج من أهل المجتمع المدني المصري، وجلهم في الحقيقة أناس عملوا بكل جهد وإخلاص على كشف سوءات النظام السابق ودافعوا عن الظلم البين الواقع على الشعب، يقال عنهم اليوم إنهم سبب تدهور «قيمة الجنيه المصري وارتفاع الأسعار»!.. بأشكال من التهم الغبية التي تروج للعامة والبسطاء.

الثورات العالمية الكبرى هي التي تجاوزت هذا المأزق الخطير بتصفية المخالفين بالقتل المادي أو المعنوي، فالثورة في جنوب أفريقيا قد قرأت التاريخ وتعرفت على مجرى الأحداث بشكل واع فقامت بمواءمة شعاراتها مع سلوكها العملي، وبدلا من التصفية لجأت إلى الاستيعاب، إنما ذلك كان في إطار ثقافي يبدو أن ربيع العرب ما زال بعيدا عنه! فديدن الجميع اليوم هو زيادة الخسارة الوطنية في الاقتصاد خسارة أخرى كبرى في القوة البشرية من أجل أن يصفوا الجو للقادة الجدد حتى يقول لهم الجميع «نعم» بصوت عال!

آخر الكلام:

مع نشرات الطقس وأرقام درجات الحرارة أو البرودة تعودنا في عام كامل أن نستمع أيضا إلى عدد القتلى في مدن وقرى سوريا، أليس لهذا الليل من آخر؟! لقد فقدنا حتى القدرة على عد القتلى ونرجو ألا يكون العدد في النهاية سكان سوريا جميعا قبل أن يصحو الضمير العالمي الذي حتى الآن يكيل بمكيالين!